إن إعادة تأهيل المجتمع واجب أساسي على جميع أجهزة الدولة ليواجه التحديات كالبطالة وخصوصاً بطالة المرأة وما يواجه المجتمع من أمراض وحوادث مرورية واستهتار بالأنظمة من قبل قلة من الشباب المتهورين ابتلي العالم العربي بنكبات كثيرة عايش أبناء جيلي كثيراً منها، وقد كان أسوأها احتلال فلسطين من قبل عصابات منظمة تتسلح بالعلم والتخطيط بعيد المدى وتتمتع بدعم العالم الغربي المتقدم، وقد أسفرت الحروب معها عن هزائم متواصلة للأنظمة العربية مما أفرز ردود أفعال تمثلت في سلسلة انقلابات عسكرية قادها مغامرون شوهوا الحقائق وعزوا ضعف الأمة إلى الاستعمار والأنظمة القائمة، وسخّروا كل وسائل إعلامهم لترسيخ هذا المفهوم، وصار كل عربي لا يؤمن بالقومية وبزعيمها عبدالناصر بحاجة إلى علاج نفسي، وبعد هزيمة العرب عام سبعة وستين بدأت تخبو القومية العربية وحلت محلها الأحزاب الدينية التي قادت ما يسمى بالصحوة حتى صار كل عربي لا ينتمي إليها مشكوكاً في إيمانه وتدينه، وبلغت قوة الأحزاب الدينية ذروتها في حرب أفغانستان حتى صار كثير من الآباء والحكومات تدفع بأبنائها إلى ميادين الجهاد، لكن تبين أن اللعبة كانت أكبر من الجهاد، فبعد هزيمة الاتحاد السوفييتي وانكفاء أمريكا بعد أن حققت الغرض من الحرب تحول الجهاد إلى حرب أهلية طاحنة، وعاد الشباب المغرر بهم إلى بلدانهم ليمارسوا الإرهاب في ديارهم. وبعد قيام الثورة الإيرانية بتشجيع من الغرب وسعيها الحثيث لتصدير الثورة، وبعد حركة جهيمان أصبح العالم العربي ميدان قتال تغذيه النعرات الطائفية والدينية والمذهبية وصارت الكلمة العليا للتطرف والتشدد وصارت أموال العرب تدفع لمصانع السلاح في الغرب والشرق. عاش العالم العربي أعواماً طويلة من التخبط والبحث عن حلول عاجلة غير مدروسة كرّست الديكتاتورية العسكرية التي قضت على كل جميل كان موجوداً قبل حكم الانقلابيين، ثم جاءت الصحوة التي اهتمت بالمظاهر على حساب المخابر وعلى العبادات دون التعاملات وأسهمت الطفرة المالية في دعمها بما تحتاجه من مال جندته في الدعوة إلى مزيد من الانغلاق ومحاربة كل جديد خصوصاً ما له علاقة بالمرأة وحقوقها والفن ودوره في ثقافة المجتمع، وفي سوء تفسير الولاء والبراء لتأصيل نبذ الآخر وكرهه. كان لهذه الحقبة إفرازاتها الكثيرة التي شوهت الدين وأفرزت منظمات متطرفة مثل القاعدة وداعش وبوكو حرام وغيرها في أكثر من بلد إسلامي، واليوم تتخذ المملكة العربية السعودية موقفاً واضحاً من تلك المنظمات ومن الأحداث التي تعصف بالعالم العربي، وتنبع قوة المملكة من مكانتها الروحية والاقتصادية لكن قوتها الحقيقية في جبهتها الداخلية التي يمكن تعزيزها بالخطوات الآتية: أولاً: التعليم هو أساس برمجة المجتمع ومن مدارسه انطلق ما يسمى بالصحوة، وهو السلاح الفعال ضد التطرف والانغلاق وضد التهتك والانفلات، والتعليم المطلوب في هذه الأيام هو الذي يخاطب العقل والمنطق ويستخدم التحليل والاستنتاج للوصول إلى الحقائق والحلول، ويعلم المنطق الذي يجعل التلميذ منتجاً للنص وناقداً له، يقرأ النص من عدة أوجه ويدرس القواعد العامة للتفكير الإنساني الصحي. ويميز بين الحق والباطل وبين الخير والشر، التعليم الذي يحترم الآخر والذي لا يقول لأبنائنا إننا نمتلك الحقيقة كاملة دون غيرنا، التعليم الذي يعطي المرأة مكانتها وحقوقها الكاملة في البيت والشارع والمحكمة، وحقها في العمل في بيئة صحية بعيدة عن سوء الظن أو التسلط والولاية، تعليم يعيد للفن الراقي مكانته ورسالته في الرفع من الذوق العام وترسيخ الثقافة الراقية ويحارب الفن الهابط الذي يدغدغ المشاعر ويثير الغرائز. التعليم الذي لا يشوه التاريخ ويوهم أبناءنا أن آباءهم كانوا من جنس غير جنس البشر الذي جبل على الخطأ والمعصية، وأوهموهم أن الأوائل لا يخطئون ولا يتقاتلون ولا يرتكبون الفظائع بحق بعضهم، علينا أن نمكنهم من قراءة التاريخ بتجرد ودون مبالغة في المديح الذي يأتي بضده، وأن نبين لهم أن من سبقونا بشر لهم حسناتهم وسيئاتهم، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وهذا لن يتحقق إلا بإعادة بناء التعليم على أسس علمية وإعادة صياغة وثيقة التعليم التي مضى عليها أكثر من خمسين سنة لتواكب متطلبات العصر والقرية الكونية، وأن تعمل الوزارة بعيداً عن المركزية القاتلة وهيكلها التنظيمي المترهل، والتخلص من القيود التي تفرضها وزارة الخدمة المدنية، وأن تستفيد من خبرات الدول المتقدمة في وضع المناهج وتدريب المعلمين والمعلمات، وهذا لن يحققه سوى وزير بمواصفات وزيرها الحالي وتغيير القيادات التي تحارب كل جديد ودعم سياسي غير محدود لتصحيح المفاهيم. ثانياً: مواصلة الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي للوصول إلى العالم الأول الذي لا يتأثر بالهزات من حوله، فلو بقيت اليابان تتغنى بأمجادها وتنفخ في قوميتها وتضع كل إخفاقاتها على الغرب لأصبحت واحدة من دول العالم الثالث، وهذا ينطبق على سنغافورة وكوريا الجنوبية وغيرهما من الدول التي قامت بإصلاحات جذرية ووضعت الرجل المناسب في المكان المناسب وحاربت الفساد بلا هوادة على جميع المستويات، وجعلت خدمة المواطن وتعليمه وتوظيفه وإسكانه على سلّم أولوياتها، وهذا ما جعلها دولاً مستقرة ومزدهرة ولديها كل مقومات القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية. إن إعادة تأهيل المجتمع واجب أساسي على جميع أجهزة الدولة ليواجه التحديات كالبطالة وخصوصاً بطالة المرأة وما يواجه المجتمع من أمراض وحوادث مرورية واستهتار بالأنظمة من قبل قلة من الشباب المتهورين. تأثير المملكة لن يقتصر على شعبها لكنه سيؤثر على كل الشعوب العربية والإسلامية والأقليات التي تعيش في بلاد غير المسلمين لتعيش في حب وتسامح مع الآخر المختلف وتؤدي رسالة الإسلام الخالدة ودعوة رسوله الكريم الذي بعث رحمة للعالمين.