عبدالحميد الأنصاري - الجريدة الكويتية شيخ شهير من مشايخ الدعوة، ورمز بارز من رموز الصحوة، يلقب ب«الشيخ الدكتور» وصاحب موقع ديني إلكتروني يدعى «المسلم» ألقى منذ أسبوعين محاضرة حماسية في أتباعه ومريديه هي أشبه بخطبة دينية تحريضية، دعا فيها الشباب المتحمس إلى الجهاد ضد العلمانيين والليبراليين في أوطانهم بدلاً من الذهاب إلى الجهاد في العراق وأفغانستان، قال الشيخ الدكتور «يأتيني بعض الشباب وهم يرغبون في الذهاب إلى أفغانستان والعراق للجهاد في سبيل الله، فأقول لهم تلك البلاد حتى لو كانت أرض جهاد (تأمل تسمية الشيخ لأفغانستان والعراق بأنهما أرض جهاد رغم سقوط الآلاف من الضحايا المسلمين الأبرياء سنوياً على أيدي أصحابه الذين يسميهم بالمجاهدين) فلا تذهبوا إلى الجهاد هناك». إذن ماذا يفعل الشباب الذين حمّسهم بخطبه الجهادية فأصبحوا مشحونين بالطاقة الجهادية؟ وأين يفرغونها؟! لا يترك الشيخ أنصاره الشباب في حيرة بل يسارع إلى إرشادهم إلى البديل الأفضل الذي يسميه «الجهاد الأعظم»، فيقول «أمامكم الجهاد هنا، وهو جهاد المنافقين من العلمانيين والليبراليين»، ولكن كيف يكون جهاد الشباب ضد العلمانيين والليبراليين؟ يجيب الشيخ الدكتور «كل بحسب قدرته وطاقته» أي أن كل الخيارات مفتوحة أمام الشباب بدءاً من الجهاد بالقلم إلى الجهاد بالسب والشتم والاتهام بالعمالة والخيانة، وانتهاءً بالجهاد بالسيف! من العلمانيون والليبراليون المنافقون الذين يستهدفهم الشيخ الدكتور في خطابه؟ هم كل الذين يناوئون الشيخ ويعارضون طروحه الفكرية والسياسية والاجتماعية، خصوصاً عبر الساحة السعودية، هم كل أصحاب الفكر الحر من المثقفين والمفكرين والإعلاميين والكتّاب الذين يتصدون لمقولات الفكر المتطرف، هم هؤلاء الذين يدعون إلى خطاب ديني متصالح مع الذات ومع العالم، هم هؤلاء الذين يتبنون الانفتاح على ثقافات العصر، ويدافعون عن الحريات العامة، ويساندون المرأة في قضاياها، ويدعمون وصولها إلى المناصب القيادية وممارستها لكل حقوقها الشرعية، هم الذين يطالبون بتطوير المناهج الدينية وتجديد الخطاب الديني وضبط المنابر الدينية حتى لا تتحول إلى منابر سياسية محرضة ضد الآخر المخالف، هم هؤلاء الذين يواجهون ظواهر العنف الديني التي تجتاح المنطقة ويفككون المفاهيم الدينية المغلوطة لدى أصحاب الفكر المنغلق، كل هؤلاء في نظر الشيخ «منافقون» ويشرع الجهاد ضدهم. خطاب الشيخ الدكتور هنا خطاب تحريضي عنيف يستهدف كل المفكرين الأحرار، وهو يذكرنا بخطاب «بن لادن» قبل 4 سنوات ضد المفكرين العرب الليبراليين الذين وصفهم بالمستهزئين بالدين، وحرض الشباب ضدهم، وهو نفس الخطاب التحريضي الذي مازال يتردد عبر بعض الفضائيات على لسان مقدمي برامج ومتحدثين ضيوف يتماهون مع هذا الطرح الإقصائي، ويثيرون في نفسية العربي أسوأ نوازعها، ويشنون هجوماً نارياً على الليبراليين العرب بحجة أنهم «عملاء» و«خونة» لأنهم ينتقدون باستمرار ظواهر التخلف والتعصب في الثقافة العربية السائدة خدمة لأجندة الغرب بحسب زعمهم. إن خطورة الدعوة لجهاد العلمانيين والليبراليين لا تقتصر على ترسيخ واستدامة البنية التحتية للفكر العنيف، وتعميق ثقافة التطرف في نفسيات الشباب المتحمس، وبث مشاعر الكراهية والفرقة بين أبناء المجتمع الواحد، إنما خطورته الكبرى أنها تدفع مزيداً من الشباب المضلل للتورط في أعمال مسيئة، وارتكاب حماقات مؤذية ضد مواطنيهم المخالفين لشيخهم بحجة أنهم «منافقون»، والجهاد ضدهم واجب ديني. إن السكوت عن هذا الخطاب التحريضي الإقصائي ينسف كل جهود الحكومات في المنطقة نحو السعي إلى نشر ثقافة الحوار، وثقافة حقوق الإنسان، وتحصين الشباب، وتقوية مناعتهم ضد أفكار التطرف، ولذلك ينبغي تضافر كل جهود المثقفين والإعلاميين والمستنيرين من علماء الدين للتصدي لهذا الطرح المنفلت، ومواجهته وتفنيده وبيان تهافته، إذ لا جهاد ضد أبناء الوطن مهما تباينت مواقفهم السياسية واختلفت توجهاتهم الدينية، ولا فرق بين خطاب تكفيري يستهدف إهدار دماء كتّاب ومثقفين وفنانين بحجة أنهم «كفار» و«مرتدون» وخطاب تحريضي يدعو إلى الجهاد ضدهم بحجة أنهم «منافقون»، فهما خطابان يحثان على كراهية أبناء المجتمع الواحد لبعضهم، ويشرعنان استخدام العنف ضد بعضهم. التكفيريون– اليوم– أصبحوا مدركين أن مجتمعاتنا ضاقت بخطابهم التكفيري، واستهجنت استباحتهم حرمة بيوت الله وتوظيفها لخدمة أغراضهم السياسية والدعائية، فلجؤوا إلى تكتيك جديد هو اتهام الليبراليين بالنفاق الديني كمبرر لشرعنة الجهاد ضدهم، إنه لأمر مؤسف ومحزن– معاً– أن يتردى حامل أمانة الدعوة إلى هذا الدرك من الكراهية لأصحاب الفكر الحر، فيطالب بتصفية الحساب معهم عبر استخدام مفردة الجهاد ضدهم. يقول الكاتب حسن سالم في «الحياة» اللندنية– من جهاد الكفار إلى جهاد المنافقين– إن أحد علماء العقيدة في السعودية قال: «إن النفاق كان يطلق في عهد النبي على من كان يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ثم بعد ذلك صار يسمى زنديقاً، وفي زمننا هذا يسمى علمانياً، فالعلمانيون هم الزنادقة وهم المنافقون» ولكن مهلاً يا مشايح الدعوة: هلّا وسعكم ما وسع الرسول الكريم– عليه الصلاة والسلام– الذي علم حقيقة المنافقين من أصحابه، ومع ذلك لم يأمر بجهادهم، بل آثر أن يتعايش معهم ويعاملهم بالحسنى، وترك أمر حسابهم إلى الله عز وجل، ألم يكن الأجدر بمن يحمل رسالة الإسلام ويبشر بقيمه حث أتباعه من الشباب على الجهاد الأفضل في ميادين التنمية والتعليم وعمارة الأرض بدلاً من تفجير طاقاتهم في الهدم والتدمير والقتل؟! هلّا حرضهم على إعلاء قيمة الحياة واحترام كرامة الإنسان؟! هلّا أرشدهم إلى جهاد النفس ونوازعها السيئة؟! وهلّا بصرهم بالتحديات الحضارية المحيطة وأرشدهم إلى حسن الحوار والجدال بالذي هو أفضل مع المخالفين لشيخهم! لقد جرمت «قمة مكة» في ديسمبر 2005م كل الخطابات المحرضة والمكفرة ووصفتها ب«الفتاوى» المنفلتة، وقالت: إنها فرقت المسلمين ودفعت آلاف الشباب إلى محاضن التطرف، وتسببت في هلاكهم وسفك دماء آلاف المسلمين وغيرهم، وكانت وراء العديد من الكوارث في العالم الإسلامي وخارجه، لقد أصبحت سلاحاً خطيراً ضد كل فكر حر، ومعوقاً لكل إبداع وإصلاح ديني، وتجاوزت سلبياتها المجتمعات الإسلامية إلى الغرب، فأساءت إلى المسلمين هناك وإلى المجتمعات الغربية فتحرك المجتمع الدولي وأصدر «مجلس الأمن» قراره التاريخي الإجماعي «1624» بتجريم التحريض، ودعا الدول إلى إصدار تشريعات محلية لتجريم كل أنواع التحريض، ويبقى تفعيل القرار وتوصية قمة مكة حتى يأمن الناس على أنفسهم. ما دلالة المطالبة بجهاد الليبراليين؟ لا تأتي الدعوة من فراغ فلا شك أن التيار الليبرالي في السعودية قد تنامى وأصبح فاعلاً في ظل ارتفاع سقف حريات التعبير في المجتمع السعودي، فأصبح مستهدفاً من قبل خصوم الفكر الليبرالي. الآن في ظل هذا الخطاب التحريضي الذي يستهدف الليبراليين العرب، ما السبيل إلى حمايتهم؟ وكيف يأمنون على أنفسهم وأسرهم؟ وما الضمان ألا يقدم شاب غر على الإساءة إليهم وممارسة العنف ضدهم باعتبارها نوعاً من الجهاد المشروع؟ لقد طالبنا وغيرنا في مقالات عديدة بتجفيف منابع وروافد ثقافة التطرف وأنسنة الخطاب الديني عبر تطويره وانفتاحه على الثقافات الإنسانية المختلفة وعلى المقاصد الشرعية العليا، كما طالبنا وطالب الكثيرون من المهمومين بالإصلاح الديني بضبط المنابر الدينية خصوصا منابر الجمعة وتجريم استخدامها في غير أغراضها الشرعية كما هو حاصل اليوم في توظيفها لخدمة أجندة سياسية ضيقة أو دعائية شخصية وتمجيدية، أو الترويج لأفكار متشددة أو التحريض ضد الكتّاب والمثقفين المخالفين لأصحاب تلك المنابر أو التحريض على مصادرة الكتب والأعمال الفكرية والفنية. لقد طالبنا بكسر احتكار هؤلاء الدعاة لمنابر بيوت الله، كما طالبنا بضرورة مراجعة مناهج التعليم الديني التي تقوم على الأحادية في التفكير وتغييب البعد الإنساني وعلى ثقافة التلقين، كما نادينا بتحرير المنبر التعليمي من هيمنة أصحاب الفكر الإيديولوجي والمتشددين، ولكن هذه الأمور تتطلب استراتيجية بعيدة المدى، ولذلك أرى أنه قد آن الأوان للدول العربية لإصدار تشريع يجرم التحريض على الكراهية ويعطي الحق لكل مفكر حر أن يقاضي صاحب المنبر التحريضي إذا تعرض لأذى، إذ لا يكفي مقاضاة الفاعل المضلل وترك المحرض فهو أعظم إثماً، دولة واحدة هي «الأردن» تجرأت وقررت مواجهة المحرضين على الكراهية عبر تشريع قانون يجرم التحريض والتكفير، وهي خطوة تستحق المؤازرة والتأييد، إن السكوت على الخطاب التحريضي، إثم عظيم، لكن تمكين المحرضين من المنابر إثم أعظم. لقد آن الأوان لتبصير كل الدعاة على المنابر، بأن إعلان الجهاد كإعلان الحرب، أمر «سيادي» من اختصاص «ولي الأمر» ولا يترك لشيخ مهما علت مكانته حق إعلان الجهاد لا في الداخل ولا في الخارج، ولذلك لا بد من تشريع ينظم هذا الأمر دفعاً للفوضى وحماية لكرامة الإنسان وتأميناً لاستقرار المجتمع وسلامته.