تغلغلت "الواسطة" في نسيج الوظائف الحكومية و القطاع الخاص، مشكلِّةً نسبة فساد، سواء على المستوى المالي أو الإداري، وبات الكثير من المهتمين ينظرون بعين القلق إلى نموها، على اعتبار أنه من الممكن توظيف أشخاص غير أكفاء في تخصصات مهمة كالطب والصيدلة والمحاسبة والإعلام والمحاماة وغيرها من المهن الحساسة التي تلتصق بحياة الناس. ولعبت "الواسطة" دوراً في تطويع وترويض وظائف القطاعين العام والخاص وإسنادها إلى غير المتخصصين، كما أصبح الأشخاص الأقل كفاءة هم المسيطرون، خاصةً في الوظائف العادية، إلاّ أنه مهما حاول البعض "التوسط" لأحد أقاربه في وظيفة مهمة كالطب أو المحاماة أو الهندسة -مثلاً- فإن الفشل سيكون بانتظاره، على اعتبار أن هذه التخصصات صعبة جداًّ، ومعقدة، ولا يُمكن أن يستمر فيها من يجهل أدواتها أو مبادئها الأساسية. ولكي نضمن سلاسة التوظيف في هذه المهن لابد من وجود معايير أساسية لعملية الاختيار، لا يستطيع أحد أن يقفز عليها كجودة التعليم، الكفاءة، الدورات التدريبية، سنوات الخبرة، كما يبرز إقامة الملتقيات لفتح المجال أمام الكفاءات، وكذلك إيجاد المزيد من الفرص للمتميزين، إلى جانب خضوع الأفراد للمفاضلات والاختبارات، وإن كان من واسطة فهي فقط في التعريف، على أن يكون المعيار الحقيقي للقبول المهنية والمهنية فقط، بعيداً عن العواطف. غير مؤهل وقال "حمود الخالدي" -محامٍ-: إن هناك مهنًا حساسة ترتبط بمصالح الناس وأموالهم وصحتهم ومستقبلهم، مضيفاً أن المحاماة من المهن التي يجب أن يكون فيها الشخص دقيقًا في توسطه أو شفاعته، فحين يرغب إنسان ما في الشفاعة الحسنة أو الواسطة في توظيف أحدهم في مكتب محاماة عريق، أو التوسط إلى مستشار في مكتب لشخص غير مؤهل يمكن أن تضر هذه الواسطة، وتنعكس سلباً على حقوق الآخرين المتمثلة في القضايا التي استأمنوا فيها المحامي العريق الذي تم التوسط عنده؛ ليعمل فلانا معه، إذ قد تتحقق معه نتائج لا تحمد عقباها، مبيناً أنه في حال التوسط على حساب الآخرين، فإن ذلك سيكون اعتداء عليهم، وذلك أن الواسطة المحمودة جُعلت لكي يتم من خلالها بيان مطلب صاحب الحق دون التعرض أو التكسب على حساب الآخرين، وذلك من خلال أخذ الوجاهة واكتساب الفائدة المعنوية من الشخص الذي تم التوسط له، مشدداً على أهمية وجود معايير وظيفية ترفض الواسطة غير المنضبطة، سيما أنها ستوقع المتوسَط له في إشكالات مع صاحب العمل وعملاء المكتب، مؤملاً أن تكون هناك آليات عامة للتوظيف، وهي موجودة في كثير من الوظائف، لكن حال غيابها نسعى إلى توظيف الكفء من خلال بذل كافة السبل المتاحة، والتي منها بذل الشفاعة الحسنة والتي لا تأخذ حقاً من أحد. معايير مهمة وشدّد "د. محمد القحطاني" -أستاذ بجامعة الملك فيصل- على أهمية وضع آلية للتوظيف بدلاً من الواسطة بجميع أنواعها، مضيفاً أن الواسطة دمار شامل للشعوب، وفي المهن الحساسة إن دخلت تسبب الكثير من المشاكل لحياة الناس، مؤكداً على أهمية وجود معايير لعملية الاختيار، وهي التي يفترض أن تكون موجودة، ولا يستطيع أحد أن يقفز عليها بشفاعة معينة، منها جودة التعليم، الكفاءة التي حصل عليها المتقدم، الدورات التدريبية التي خضع لها، سنوات الخبرة، مشيراً إلى أن المعايير تجعل الشخص يعتقد أنه عادل، فهو مطلب رباني يتمثل في إقامة العدل، وستخلق تنافس بشري، حيث الكل سيعلم بالمعايير، وسيسعى ليكون رقم واحد للفوز بالوظيفة، مما يعني المزيد من التقدم؛ لأن الفرص ستتاح وفق المعايير للجميع، ذاكراً أن مشكلتنا الحالية عادةً تتمثل بوضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، وعدم وضع الرجل المناسب في موقعه الصحيح. رداءة العمل وعن السلبيات التي تراكمها الواسطة، أكد "د. القحطاني" على أن للواسطة سلبيات كبرى، منها رداءة العمل وبطأ الأداء والتأثير على الآخرين وغياب المهنية، موضحاً أن وضع الشخص في موقع غير مناسب وهو يخدم الناس مثل مهنة المحاسبة، أو المحاماة فذلك يعني أن حقوقهم قد تتضرر وكذلك حقوق المؤسسة. وشدّد "عبدالله بكر رضوان" -رئيس لجنة المقاولين بغرفة جدة- على أهمية وجود الشفافية التي تبعد الواسطة عن مجال التداول، إذ يرى أن ذلك لابد أن يتوفر في الجوانب الخاصة بالعمل، مضيفاً أن ثقافة الواسطة حلّت في موقع ثقافة الشفافية، متأسفاً أنها انتقلت إلى مرحلة الفساد، وهي نتيجة عدم الوعي والتربية الخاطئة، مبيناً أن المشكلة تكمن في غياب القيم، ومن هنا جاء نظام جديد اسمه "الحوكمة" وهي القيم، مؤكداً على أن الدولة سعت عبر "نزاهة" بالتذكير بالقيم ورفعها، مقترحاً نشرها في المدارس وغيرها لنؤسس مرحلة جديدة، ذاكراً أن الإسلام أساس الأخلاق ونشر الأمور الصحيحة تأتي عبر الأخلاق. وحول إدخال الأشخاص عبر تبرير الشفاعة الحسنة قال: إن المسألة ثقافة وقيم، والأمر شبيه بأن يأخذ موظف هدية من أحدهم وهي في واقع الحال رشوة، موضحاً أنه يجب التركيز على المفهوم الصحيح وهو الصدق والصراحة والشفافية، وهذا تأسيس للأمور الصحيحة. ربكة العمل وأوضح "محمد الفردان" -خبير بشؤون توظيف- أن التوسط في بعض المهن التي لا تطلب تخصصات أكاديمية، يُمكن أن يُسبب ربكة قوية لصاحب المصلحة، مضيفاً أن هناك واسطة حميدة، ودورنا كاجتماعيين ومطلعين ومتابعين أن نقيم الملتقيات لفتح المجال أمام الكفاءات والمزيد من الفرص، مشيراً إلى أن ذلك يُعد أسلوباً يبعد الواسطة التي يتضرر منها الناس، رافضاً المجاملات التي تكون على حساب الناس، خاصةً في الوظائف التي تمس الأمن الصحي والحياة والأموال، أو أن يوضع شخص في جانب فني كالهندسة مثلاً، ولنتخيل وضع شخص لا يعلم عنها شيئاً وفي مجال الطرق، مما يضر بمستهلك الطريق، مؤيداً خضوع الفرد للمفاضلات والاختبارات، وإن كان من واسطة فهي فقط في التعريف، على أن يكون المعيار الحقيقي للقبول المهنية، مشيراً إلى أنه لا توجد واسطات في مجالات مهمة مثل الطب وغيره؛ لأنها مهن تتطلب شهادات أكاديمية، بيد أن الواسطة قد تكون في دخول مجال الطب، وهنا لا بد من معايير صارمة في ذلك. نحتاج إلى أن تكون «المهنية» المعيار الحقيقي لقبول الأفراد بعيداً عن العواطف تحكيم الضمير وتحدث "سعيد اليامي" -مدير مجمع تلفزيون الدمام- قائلاً: إن الواسطة التي تجلب غير الأكفاء في المجال الإعلامي بمثابة الجريمة التي ترتقي لتقف ضد مصالح الوطن، مضيفاً أن البعض يأخذ الإعلام كمهنة من لا مهنة له، ويأتي ليتوسط لغير الأكفاء للعمل في الجانب الإعلامي، وهذا ما نرفضه بشدة، مبيناً أن الإنسان الكفء لا يحتاج إلى واسطة، والمشكلة التي نعاني منها تكمن في غياب القوانين والأنظمة المسببة لظهور الواسطات، مُشدداً على أهمية وضع معايير مهنية في الإعلام يقبل ويصنف على أساسها المتقدم للوظيفة الإعلامية. وعن فداحة جرم الواسطة أكد على أنهم لا يُعطون حق الأكفاء في المجال الإعلامي إلى أشخاص لا يستحقون مواقعهم؛ لأن ذلك خسارة ليس للقطاع الإعلامي، بل للوطن نفسه، ذاكراً أن الواسطة تُعد فساداً كبيراً يضر بالمصالح الوطنية، لافتاً إلى أن الخروج من السلوكيات الخاطئة يكمن في وجود لجان تعمل وفق القانون وتحكم ضميرها قبل أي شيء آخر، ورفع المحسوبيات التي تعيق الأكفاء عادة. ورأى "طالب التريكي" -مخرج تلفزيوني بتلفزيون الدمام- أن الواسطة التي قد تدخل في مجال الإخراج التلفزيوني قد تتسبب بالكثير من المشاكل، مؤكداً على أنها محاربة من قبل المدراء الذين يدركون أن غير الكفء سينكشف، موضحاً أنه تبقى مسألة واحدة تكمن في أن الجهة الإعلامية هي التي ستدفع الثمن، بعد أن يلاحظ المشاهد ضعف الإخراج والأخطاء المتكررة، خاصةً البرامج التي تكون على الهواء مباشرة. أرضية مناسبة وأشار "د. محمد المحروس" -استشاري وباحث بمجال علوم المكروبات الإكلينيكية وهندستها الجينية- إلى أن الواسطة قد توجد في تخصصات طبية متقدمة بشكل يدمر مستقبل الوطن ولا يدمر المهنة فقط، مطالباً بأهمية تغيير نمط التفكير وتوفير أرضية مناسبة للقضاء على الواسطة من قبل الجهات المعنية، وذلك ضمن خطط وأُطر يجب أن تُبنى على أسس علمية وليس ارتجالية. وعن أسباب الواسطة في مجال الطب قال: إننا دائما كمجتمع ما نؤمن بأن من يدخل الطب هو شخص يمتلك الذكاء أكثر من غيره، وهذه النظرة خاطئة بكل المقاييس، كما أن النظرة المغلوطة هي التي تدفع الأسرة إلى البحث عن الواسطات لأشخاص في النهاية سيجدون أنفسهم يؤدون وظيفة فقط، بيد أن الطب مهنة إنسانية يجب أن يكون العمل فيها آتيًا من الحب لمساعدة الآخرين، ومن هنا ترتقي مهنة الطب، لافتاً إلى أن الواسطة لن يقضى عليها إن استمر التفكير السلبي في مجالات الحياة. حمود الخالدي هناك فرق بين الواسطة والشفاعة الحسنة.. فرّق "حمود الخالدي" بين الواسطة و"الشفاعة الحسنة"، قائلاً: لاشك أن دور الشفاعة الحسنة يبدأ عند غياب المعلومة عن شخص تنطبق عليه الشروط في وظيفة ما، وتكون هنا بأن يتم البيان لصاحب العمل أن الشخص المتقدم للوظيفة كفؤ، وأن مسوغات التوظيف تنطبق عليه، حيث يتم التدليل بأن المتقدم يحمل المؤهلات المطلوبة، وأنه يستحق الوظيفة، لكنه لم يستطع أن يقدم نفسه بالشكل المطلوب للمسؤول عن التوظيف. وأضاف أن الشفاعة هنا جميلة ومحمودة، خاصةً إن لم تؤثر على مصالح الآخرين ولا تأخذ حقاً لشخص آخر هو أحق بتلك الوظيفة، ولا تتعارض مع حقوق الآخرين، فهذا أمر محمود في شرعنا الحنيف مصداقاً للحديث الشريف: "من سعى في حاجة أخيه سعى الله في حاجته". وأشار إلى أن الشفاعة الحسنة تكون في مساعدة الآخرين عبر إبراز ما يملكون من استحقاق لأخذ حقوقهم النظامية، مؤكداً على أنها تأتي عبر الحديث لصاحب العمل، مع عدم مخالفة الجانب النظامي في المسألة، فمثلاً لا تجوز الشفاعة في المخالفات التي يرتكبها الشخص، والتي يكون فيها محاولة ثني المسؤول عن تطبيق الجانب النظامي على مرتكبها. د.محمد المحروس الواسطة في «الطب» أشد خطراً..! أكد "د.محمد المحروس" على أن الواسطة في مجال الطب مسألة خطرة جداً، فلا يجب أن يتجه للطب أو علم الصيدلة أي شخص عبرها. وأضاف أن الفساد بذرة تنمو إن لم نقطعها، وهي حتماً ستؤثر على المجتمع، فمن البداية قد يتمكن أحدهم من دخول الطب أو العلوم الطبية أو الصيدلة بها وليس على أسس علمية صحيحة، مما يحقق الخسارة فيما بعد. وأوضح أن الدول المتقدمة تجاوزت هذه السلوكيات غير المنتجة، فالشاب وبعد التخرج من الثانوية يعرف إلى أين يتجه؛ لأنهم يخبرونه بماذا يبدع، فهذا الشخص قد يكون مميزاً في مجال الطب، فيدخل الطب، وذلك الشخص لا يبدع في الطب بل في الإعلام فيدخل الإعلام، وآخر يدخل الهندسة. وكشف أن لدينا بعض المهن غير جيدة ولا مستقبل لها، ما يسبب العزوف عنها والبحث عن واسطة لدخول الطب أو غيره من التخصصات التي توفر حسب التركيب الاجتماعي الوجاهة والراتب والموقع الوظيفي المرموق، مشيراً إلى أن كل ذلك خطأ نعيشه في مجتمعنا، وعلينا تغيير الواقع، لئلا نستمر في الأخطاء التي تنتجها لنا الواسطة في مجالات مهمة.