لابد أن نمتلك لياقة نفسية عالية، كي نستطيع أن ندخل بيتاً أندلسياً في قرطبة يعود إلى القرن الثاني عشر(الخامس الهجري)، ونخرج منه ثانية دون أن تتخطفنا مراوح الشجن، وبرك الدمع التي تكمن في الزوايا، وهسيس أرواح هائمة تبحث عن مفاتيح المنزل. منزل قرطبي قديم يعني نافورة تغوي المارين باقتراف الخطوة الأولى، نافورة تنشد قصائد الماء لشجر الليمون والأترج الذي يطوق باحة المنزل الداخلية، وطيور الهند والسند القزحية تتلصص بفرح ماكر بين الأوراق، وإذا كنت محظوظاً مثلي وزرت المنزل في موسم تفتح زهر البرتقال، ستعبق روحك برحيق جنة الأندلس السرية التي تكمن داخل كل عربي. ذلك المنزل تزخرف خطوط العسجد زرقة فسيفسائه والآيات القرآنية الكوفية تطوق الأبواب وتحرس الجدران وشتلات لم تقرر لونها هل هو قرمزي أم ملوح بالزعفران والريحان، لكنها تحتضن النوافذ وتلتف حول المقابض وتنهض بسخاء متدفق، جميع هذا يقودك إلى قبو مسقوف يتوسطه جب يضمر الكثير من الأسرار والجرار، كل هذا العبق سيأخذك حتماً إلى ضفاف الأسطورة، حيث هناك حتماً ستلتقي بسلمى القرطبية. سفيرتنا الدائمة في قرطبة، لاأدري داخل أي دائرة التقيت بسلمى، هل هي المسلمة العربية التي يسرب لها الجامع الكبير أحزانه ووحشته عندما تقرع الأجراس فوق مآذنه وتطمس هويته وتمارس فيه الطقوس الكنسية كل صباح؟ (سلمى تخوض حرباً شرسة وحيدة دون أن يعاضدها مفتولو الشوارب لدى اليونسكو لتكريس اسم الجامع الكبير كجزء من التراث العالمي إلى جوار من يحاول أن يصنفه ككاتدرائية فقط). أم التقيت وإياها داخل كونها سعودية من أصول فلسطينية، أمضت جزءاً كبيراً من حياتها في جدة وصممت إحدى غرفات صالونها مقارباً للمقاعد الحجازية الخشبية المرتفعة ؟ لكن كان هناك الكثير من غرفات الاستقبال في الصالون الأندلسي كقلب صاحبته، تلك السيدة التي كان مهرها من زوجها الأخير.. هي شهادة (أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله). وزوجها بالمناسبة ليس إلا الفيلسوف الشهير (روجيه غارودي) من أهم الفلاسفة العالميين الذين اعتنقوا الإسلام في العصر الحديث وفاز بجائزة الملك فيصل عام 1985 الطابع العالمي (الكوزموبليتاني) في نظرته للإسلام جعله يؤسس متحف (القلعة الحرة) حيث استثمر قلعة عسكرية عربية قديمة تقع على ضفاف الوادي الكبير(نهر قرطبة) وجعلها متحفاً أخاذاً يبرز فيه منجزات العرب والمسلمين في مجال العلوم والثقافة، المتحف نزهة للناظرين مؤسس بدقة وبحب وافر، ذلك الحب الذي نعجز أن نتعرف عليه أو نستثمره، ونعجز عن تحويل مشاعرنا الدينية الجياشة إلى منجز حضاري يعكس الجذوة الحضارية الأولى في معتقدنا. بعد رحيل جارودي بقيت سلمى على هذا الثغر العربي داخل مدينة قرطبة، تملؤه بجلسات الذكر والاحتفاء بكل ماهو أندلسي، وحينما أرتني المكان الذي تصلي به التراويح الرمضانية، لم أرث لها لطول النهار الأوربي للصائمين، بل غبطتها على السكينة والروحانية كونها تصلي فوق جزء من سور قرطبة القديم الذي يتصل بالجامع الكبير. ألم أقل لكم منذ البداية..إننا بحاجة إلى قدر كبير من اللياقة والثبات، كي نستطيع أن نزور سلمى القرطبية وبيتها الأندلسي وجدرانه المجدولة بعرائش الياسمين..دون أن يتخطفنا الشجن ولواعج الطلل؟.