هناك مدن نزورها ونتجول فيها ونستمتع بما تمنحه المدن للغرباء عادة من متاحفها وأزقتها وأسواقها وضحكة نادلة المقهي المستعجلة، ومن ثم نغلق بوابتها ونغادر ونكتفي بتذكار منها قد نتخلص منه مستقبلا لازدحام الأشياء حولنا، ولكن كيف يكون الأمر عندما نكتشف أن مدينة ما قد رافقتنا عند العودة؟ عندما ناولنا موظف الاستقبال في فندق داخل مدينة (قرطبة) بطاقات غرفنا، قال لنا أرجو أن تستمتعوا بتراثنا! توقفت لبرهة فبوصلة الجغرافيا لدى موظف الاستقبال تشير نحوي كغريبة، لكنها الغريبة التي التبست هويتها وكان لديها جرأة الحنين لتسأل: ماذا يفعل الغرباء في بيتنا؟ الكتاب هو الدليل السياحي المضلل الذي يجعلنا نتورط بالنص الأندلسي فيقصينا عن الواقع، فنصل هناك ونتوقع أن الجميع سيكون بانتظارنا، من نخلة عبدالرحمن الداخل، إلى غمد سيف آخر ملوك بني الأحمر. ولكن قرطبة خبأتهم أو لربما التهمتهم ولم يبقَ سوى جدران أزقتها المشغولة بأصص الورد، وحدائقها المفعمة بشذا شجر النارنج ومفاتيح كثيرة تباع في دكاكين التذكارات السياحية، أتراها مفاتيح منازلهم؟ بداخل كل عربي هناك جنة صغيرة متوارية اسمها (الأندلس)، حتى اننا ما برحنا نسمي شوارعنا وأسواقنا وأحياءنا بها. في قرطبة وفوق جسر نهر الوادي الكبير كانت السانية الكبيرة ما برحت تستجلب الماء على وقع اغانيهم، وكأنهم سينحدرون فجأة من كتف الوادي تخطفني الشجن وتصعد الجيشان يود أن يتحول إلى دمعة، لكن الدمعة منعها سؤال ماكر يتقافز داخلي: لكن ألستم أنتم الغزاة الذين قدموا من تلك الصحراء البعيدة الغامضة ليغرسوا راياتهم فوق سهول الحنطة والزعفران الأسباني؟ لكن لم استسلم لهذا السؤال الجاف السمج الذي يريد أن يشطر المخيلة بسكين حادة، ووقفت أسوق له من التاريخ المسوغات والمبررات، فالقبائل السامية ظلت تجوب العالم وتستوطن البلدان منذ فجر التاريخ، وهم أنفسهم الأسبان قد أقلعت بهم سفنهم إلى بلاد أقوام المايا والأنكا في القارة اللاتينية فاستوطنوها وظلوا هناك إلى الآن، ولكن لم غادرنا نحن الأندلس؟ وماذا يفعل الغرباء في بيتنا؟ ونحن الذين في زمن ما ملأنا هذه السهول بالعمران والقصائد والموسيقى والفلسفة وجميع ما تحتويه كلمتي حضارة ومدنية. ولن يجيبنا على هذا سوى الخزف الأزرق المشغول بالذكرى والخط الأندلسي (لا غالب إلا الله) سنكتفي بالهروب إلى الأحرف الأندلسية والتي تحدت محاكم التفتيش وبقيت منحوته في المحراب وعلى إطار نافذة وفي قرار أغنية فلامنجو تبث حولها لواعج وصبابات النساء العربيات اللواتي كن يتنزهن على ضفاف الوادي الكبير كالرياحين. لكن اسم مدينة الزهراء بات مكتوبا بالأحرف اللاتينية، والأحرف الأندلسية تعالج فقط أقفال الأجوبة المتحجرة كما تحجر تمثال لولادة وابن زيدون كان يقبع جوار فندقنا وكتب تحته بالعربية والأسبانية: أغار عليك من عيني ومني ... ومنك ومن زمانك والمكان في برشلونة أعمل يديهم القشتاليون ليطمسوا الآثار فلم يبق هناك من آثار سوى شارع (الرملة) الباذخ الذي كان واديا يسيل بالماء فأصبح الآن يسيل بالسياح المتأنقين ومقتنصي الفرح والمفاجآت. ولكن في قرطبة مازالت الموشحات الأندلسية تتسلق الجدران، تلاعب نافورة في فناء أموي، وتتنهد عبر التفاف الآرائك والفسيفساء جاد الغيث إذا الغيث همى ... يازمان الوصل في الأندلس لم يكن وصلك إلا حلما ... في الكرى أو خلسة المختلس هل كان الأندلسيون يخطون وصيتهم في أشعارهم، هل كانت قافلتهم تعلم بالرحيل والنزوح الكبير، ولكن مئذنة الجامع الكبير مهما علقوا فوقها من أجراس فهي تصر على أن تبقى مئذنة. كل المدن حين تغادرها تغلق دونها بوابة الطائرة، إلا قرطبة فهي تقفز إلى أعماق الروح وتصنع لها متكئا، ونخرج منها ونحن ننقب في أوقاتنا عن فرجة وقت نستطيع أن نتسلل منها إلى قرطبة من جديد.