أعتقد أن فلسفة المتحف قد تجاوزت فكرة أن يكون مبنى أثرياً قديماً يزوره الناس، لمشاهدة مجموعة من المقتنيات الأثرية، والخردوات، ويزوره الطلاب كي يشعروا بالملل. باعتقادي أن المتحف بات نشاطاً ثقافياً يتداخل مع هوية المدن ومعالمها، بحيث أصبح يختزل أبعاداً لامتناهية من التاريخ، والأدب، والفلسفة، وحوار الحضارات. في إجازتي الماضية استوقفتني ثلاثة متاحف، جعلتني أتلمس بشكل جلي، التطور الذي طرأ على النشاط المتحفي عالمياً، فمتحف الفنان سلفادور دالي مغامرة سريالية أخاذة، والمتحف الذي يقع في مسقط رأسه بلدة (فيقرس) التي تبعد بدورها عن مدينة برشلونة ساعتين بالقطار، يولجك حلماً سريالياً غامضاً انطلاقاً من حديقته، وردهاته، وممراته، حيث تتخطفك أحلام دالي، وكوابيسه، وساعاته المصهورة، وأفياله ذات السيقان المستدقة، عبر المجسمات، واللوحات، وحتى سيارته العتيقة. المتحف جعل من تلك المدينة الإسبانية المغمورة، مزارا لجميع محبي الفنون في العالم،بعدما أحيا تلك المدينة، وأنعش اقتصادها، ومحلاتها الصغيرة، ومطاعمها، واهتزت، وربت، وهي تسقى بماء أحلام دالي. المفارقة هنا، أن دالي هو من أسس متحفه بنفسه، وأشرف على تنظيم محتوياته قبل أن يرحل، فالمبني كان مسرحاً يعود لبلدية المدينة، قبل أن يُمنح له، ويجعله ساحة لصهيل خيول أحلامه، كأحد أشهر رواد المدرسة السوريالية العالمية.. المتحف الآخر، هو متحف مدينة الزهراء في مدينة قرطبة، وهو المتحف الذي يقبع أسفل التلة المشغولة بشجر اللوز، والزيتون، والتي تقوم على قمتها مدينة الزهراء الأسطورية، التي بناها الخليفة الأموي عبدالرحمن الناصر عام 940، فالمتحف بطرازه الحديث، يقدم عبر شاشات بلازما كبيرة عروضاً احترافية عبر الجرافيك، عن كيفية بناء المدينة، واختيار موقعها، ونوعية أحجارها، ومهندسيها، ومزخرفيها، ولايكتفون بهذا بل يصورون عبر (الانيميشن) الخليفة الناصر وهو في بلاط الخلافة، يستقبل الوفود من جميع أقطار الأرض، بشكل يعكس طبيعة المرحلة، وتفاصيلها، ويوثقها، بشكل دقيق، كل هذا وسط عدد لامتناه، من المقتنيات الأثرية، التي اكتشفت في مدينة الزهراء، حتى إذا انتهيت من المتحف، وتشبعت بالمعلومة، كان هناك حافلة تقلك إلى أعلى التلة، حيث تقبع مدينة الزهراء وقصر الخلافة (دار الحكم ) ، فتتجول في ممراته، وتحت أقواسه، مستحضراً تاريخ الأسلاف، وهيبة وحضارة الخلافة الأندلسية . المتحف الأخير المميز الذي لفت نظري هذا العام، هو المتحف الذي استضافته مدينة اسطنبول تحت عنوان Three Masters أو (العظماء الثلاث ) مايكل أنجلو، ليوناردو ديفنشي، ورفائيل،وهم أبرز الرسامين الايطاليين في عصر النهضة، فقد عاشوا في عصر مشترك. ولكن كل منهم حاز على مجده. وصيته الفني الخاص، عبر العصور نظرا للعبقرية الإبداعية التي تختزلها أعمالهم، والتي قدمها المتحف عبر نماذج من أعمالهم، التي نالت شهرة عالمية كان أبرزها تمثال دايفيد لمايكل آنجلو، ولوحتا الجيوكندا والعشاء الأخير. الذي ميز العرض المتحفي هنا، هو توظيف كبير للتكنولوجيا في خلق جو تفاعلي، بين زائر المتحف والمادة المقدمة، حيث ينتقل الزائر تدريجياً عبر الايحاءات، والظلال، والموسيقى، لأزقة المدن الايطالية في عصور النهضة . لم تعد المتاحف ردهات كبرى، منسية للخردوات، بل هي حتما باتت مغامرة ثقافية من نوع خاص تثير الفضول والدهشة، تروي الذائقة،وتحقق لمرتاديها تجربة ثقافية هائلة المتعة.