مرت على كثير من الشعوب العربية عدة عقود من الزمان وهي صامتة، تتلقى بصبر طويل وثقيل ما تهدر به وسائل الدعاية الرسمية المسماة ظلماً "وسائل إعلام"، وظل ذلك "الإعلام" ينشر ويبث رسائله الدعائية الأحادية الاتجاه مفترضاً (أن كل الناس يصدقونه في كل ما يقول"، وأن هؤلاء الناس الذين لم يكن لهم خيارات غيره "يعتنقون كل ما يأمر به وينهى عنه"، وأنهم ما هم إلا "مجاميع وحشود بشرية تسيطر على تصرفاتها روح القطيع". ووفقاً لهذه النظرة القديمة القاصرة، كان يفترض أن تظل تلك المجتمعات محبوسة في حظائر الأنظمة "الثورية، التقدمية، الاشتراكية، الجماهيرية.. الخ" من الشعارات ذات البريق الذي يأخذ بألباب المتطلعين لها، لكن أجيالهم تتعاقب، دون أن ينالوا من السراب قطرة واحدة تروي مرارة عطشهم، وحين ينتبهون يجدون قطار المدنية قد مضى بعيداً عنهم، وأن أقرانهم الموسومين بالرجعية كانوا من أوائل المغادرين على ذلك القطار. توجد نظرية إعلامية اسمها "دوامة الصمت"Spiral Of silence تفترض أن: قيام وسائل الاتصال المؤثرة وخاصة التلفزيون في حال تبنيها وانحيازها لاتجاهات أو آراء محددة والتركيز عليها لفترة كافية، فإن أغلبية جماهير المتلقين ستسير معها، وبذلك يتشكل الرأي العام في المجتمع وفق الاتجاهات والآراء والأفكار التي تتبناها وسائل الاتصال نحو قضية أو شخصية معينة، أما الأفراد الذين يختلفون مع هذه التوجهات فإنهم يلتزمون الصمت لتجنب الصدام مع الجماعات الكبيرة المؤيدة، ويفضلون عدم التصريح بآرائهم، بينما يصرّح المؤيدون بأفكارهم ويفاخرون بها، وبذلك تظهر آثار لولبية تميل نحو الجانب السائد بفعل وسائل الاتصال لا تعبر عن المواقف والآراء الحقيقية لجماهير المجتمع. وفي البلدان النامية تُستخدم وسائل الاتصال بسذاجة مفرطة مبنية على فرضية تأثر الجمهور المتلقي الصامت وانسياقه في اتجاهات أيديولوجية مرسومة تخالف عقيدته وأساسيات بيئته، لكن هذا الصمت لم يكن سوى تمويه يستر عكس ما يفترضه القائمون على الاتصال، فهو ليس بصمت أهل القبور، إنه يظل يتراكم عبر السنين حتى إذا وجد فرصة للانطلاق من قيوده لا يستطيع أحد مهما كانت قدراته أن يلجم جماحه؛ ففي عصر السماوات المفتوحة، واستخدامات التقنيات الاتصالية الحرة المتاحة للجميع لم يعد لما يسمى الإعلام الرسمي إلا تأثيرات محدودة، إذ لم تعد هناك دوامات صمت كما كانت الأحوال في سالف الأيام.