ضاقت الدنيا في عينه وانسدت كل السبل في وجهه وبات في حيرة من أمره، مرّت عليه ليالٍ ثلاث وهو لم يذق للنوم طعماً ولا للزاد لذة؛ إذ كيف ينام أو يأكل وهو يرى حقه أمامه مسلوباً ولا يستطيع أن يرده، وبينما هو في تفكيره لاحت له فكرة، وتعجب كيف ذهبت عنه، وهي التوجه إلى "كبير الحارة" ووجيهها؛ ليجد له حلاً فيما حل به، فهو كما يقولون "حلاّل العقد"، وكلمته مسموعة، وسطوته غير مأمونة، فهو نصير المظلومين ودرعهم الحصين، وما هي إلاّ لحظات حتى وجد نفسه واقفاً أمام منزله العامر والكبير الذي يتوسط الحارة، ولا يخلو من داخل وطالع، فمجلسه عامر بالرواد على الدوام طوال الليل والنهار، دخل باستحياء وألقى السلام، واتخذ مجلساً قصياً في ذلك المجلس الكبير، شرب القهوة، وبعد أن خلا المجلس تقدم وألقى التحية، وأخرج ما في نفسه من آهات، واشتكى من جاره في المزرعة الذي أخذ حقه من دون وجه حق من الأرض والسقيا، وما هي إلاّ لحظات حتى جاء جاره إلى المجلس بعد طلبه له، وبعد مناقشة الأمر والأخذ بالبينة والشهود رد الحق إليه، فخرج ولسانه يلهج بالدعاء له بأن يجزيه الله خير الجزاء، وأن يجعله ذخراً للضعفاء أمثاله، وذهب إلى بيته سعيداً بما حققه من نجاح وفلاح في مسعاه. نعم الرجال اللي تعرف المواجيب يلقى المعزة ضيفهم واحترامه ذلك هو حال القرى التي عرفت كل حارة من حارتها مرجعاً لها له نفوذه بين سكانها "وجيه" أو كما يسمونه "كبير الحارة"، الذي إليه ينتهي الأمر وله الحل والعقد.. هناك العديد من الصفات كانت تميزه عن بقية سكان الحارة، أولها نفوذه المطلق الذي اكتسبه من قوة شخصيته وإقدامه وكذلك من قوته البدنية وشجاعة قلبه، أما ثانيهما فهي مكانته الاجتماعية بينهم، حيث تجده من أسرة عريقة ذات تاريخ مجيد، مشهود لها بعدد من الصفات التي تتربع على عرشها الشجاعة، والكرم، والجود، والإقدام، ويتمثل فيه قول الشاعر: لولا المشقة ساد الناس كلهم البذل يفقر والإقدام قتال كل هذه مجتمعة كوّنت شخصية وجيه الحارة الذي يحسب كل واحد من سكانها له ألف حساب، فكلمته مسموعة، وأوامره مطاعة ومنفذة وعلى الإطلاق، كما أنّه الحضن الدافئ لكل محتاج أو مُضام، وهو نصير الفقير على الغني، والضعيف على القوي، فيأخذ الحق من الظالم ويعطيه لمستحقه المظلوم. بيته مفتوح للجميع وكلمته مسموعة مهما كان حكمه ورؤيته فتوة و"أبضاي"! وقد وردت العديد من القصص عبر التاريخ التي تحكي شخصيته، ولعل أكثر الدول التي عايشت وجوده هي دول الشام، حيث يطلق عليه اسم "الأبضاي"، وكذلك في مصر يدعى فيها ب"الفتوة"، ولكنْ هناك اختلاف في مهمة وجيه الحارة لدينا ووجيهها هناك، ففي بلاد الشام ومصر يكون دور "الفتوة" و"الأبضاي" هو المنعة والقوة والسطوة معاً؛ مما يجعله مهاباً ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة في الحارة، سواء في التجارة أو الصناعة أو التعاملات، وغالباً ما يفرض عليهم أتاوات تدفع له من الجميع. ويختلف الوضع في بلادنا فهو كما أسلفنا "كبير الحارة" أو "وجيه الحارة"، والذي يفرض حبه واحترامه على الجميع، ولا يصل إلى ما هو عليه إلاّ بالصفات الحميدة والمناقب الحسنة، كالكرم، والشجاعة، والعدل، والخوف من الله في كل أموره، والتي تجعل منه ملاذاً ونصيراً للمظلومين، وكنفاً للمحتاجين، ومرجعاً لجميع أهل الحارة فيما يعترضهم من مشكلات. كبير الحارة يجمع الأهالي في مناسبات الفرح ويسعى إلى إشاعة المحبة والتعاون بين الجميع وكان بيت هذا الوجيه في بلادنا مفتوحاً على الدوام، حيث يجد من يرتاده الترحيب، ويجد كذلك كرم الضيافة من القهوة العربية مع التمر، والسمن، والأقط، التي تقدم له، بينما يتصدر المجلس ويأمر بصب القهوة للضيوف، ويحادثهم، ويقضي حوائجهم، ويكون مجلسه غالباً مجلس علم، وأدب، وحكمة، وتجارب، تسوقها أفواه الرجال من الحاضرين، من كل مكان، ضيوفاً وسكاناً، ولا بد لمن يقصد الحارة لأي سبب كان أن يكون بيته أول بيت يزار؛ تقديراً لحقه على الجميع، فهو مرجع الجميع، ومستودع الأسرار، وحلال المشاكل التي تستعصي على كثير من الرجال. السعي للصلح يكاد يكون السعي الى الصلح والمشي في إصلاح ذات البين من أهم الأعمال والمشاق التي يتحملها كبير الحارة ووجيهها، وقد أكسبته السنين وكثرة المواقف كيفية التعامل مع معظم حالات الصلح التي يحضرها، وكثيراً ما تسمع كلمة: "مادام تدخل فيها فلان، فالمسألة محلولة"، ومن أهم المشاكل التي يحلها فض النزاعات على الأملاك بين الناس، وقد يكون النزاع حتى داخل الأسرة الواحدة، كمسائل الإرث مثلاً، فتراه يتصدى لمن أثار المشكلة، ويحاول بكل ما أوتي من فصاحة وعلم أن يفحم صاحب الحجة التي قد لا ترضي الجميع، أو تخالف الشرع، فيتنازل عن مطالبه، ويتم تسوية الخلاف، وكدليل على الصلح يتم كتابة وثيقة يبين فيها حلّ الخلاف واتفاق الأطراف. مركاز العمدة لا يزال موروثاً نتناقله بين الأجيال رغم المتغيرات والمغريات ومن المشاكل أيضاً التي يتولى حلها والتدخل فيها بجاهه هي حل النزاع بين الأزواج، ومحاولة منع الطلاق حتى لو تحمل من ماله الخاص للإصلاح، ومثل ذلك شفاعته في عتق الرقاب، والخصومات في القصاص، حيث يتدخل ويتشفع لدى أهل المقتول؛ كي يتنازلوا لوجه الله عن حقهم، والرضا بالدية التي يرغبون، ويضمن دفعها في موعدها المحدد، وكثيراً ما تفلح تلك المساعي في عتق الرقاب، وكل هذا العمل الذي يقدمه من دون مقابل، بل ابتغاءَ للأجر من الله تعالى، وحباً في عمل الخير ومساعدة كل محتاج. مستودع أسرار ونظراً لكثرة مساعي وجيه الحارة في الصلح وحل مشكلات أهل الحي فإنّه يكون على علم كبير بأسرار سكان الحارة، وربما كان أكثر دراية ومعرفة من أحوال الجار لجاره، بل الأخ لأخيه، ومع ذلك فإنّ صدره مقبرة للأسرار، وصندوقاً لا يمكن لأحد أن يفتحه، أو يطلع عليه، حتى من أقرب الناس إليه كزوجته وأبنائه، فهذا رجل جاء ليستشيره خاطباً لإحدى بنات الحي، فيسأله هل هم من الأكفاء الذين يكون المرء محظوظاً بالارتباط بهم، وهذه عجوز جاءت تسعى إليه ليحل لها مشاكل مع أبنائها من شدة عقوقهم لها وتقديم زوجاتهم عليها، إلى امرأة مات عنها زوجها وهي في ريعان الشباب وترك لها صبية صغاراً لا تستطيع أن تصرف عليهم لعدم تركه بعد وفاته ما يقتاتون عليه فتسأله الإحسان وإعطاءها من الصدقة وتلمح إليه أنّها لا تمانع بأن ترتبط بأي إنسان يكون كفؤًا للستر عليها وأولادها. ومع كثرة ما يكنه صدره من الأسرار فإن صدره لا يضيق بها، بل تراه ينساها أو يتناساها؛ كي لا يبوح بها لأقرب الناس إليه من زوجة وصديق، فتراه يعيش هموم الناس ومشاكلهم لكثرة ما يعرض عليه منها، واذا ما خلا بنفسه فإنه يصبّر نفسه ويتذكر أنّ ثواب الله خير في الآخرة من ثواب الدنيا الفانية، فيحارب وساوس الشيطان التي تغريه بترك هذا التعب ومواصلة هذا السعي المتعب والمنهك، فيتجدد لديه النشاط وتزول هذه الوساوس. مستودع أسرار الأهالي وساعٍ للصلح بينهم ودرع حصين للضعفاء والفقراء من تقلبات الزمان مركاز العمدة وانتشر في الحجاز قديماً ما يسمى ب"المركاز" خاص بالعمدة، وهو عبارة عن كرسي من الخشب له ظهر ومسندان خشبيان، يوضع على الخلفية قماش ليزينه، وكذلك قطيفة لراحة الظهر، ويكون أمامه طاولة يوضع عليها الماء المبخر، أو الماء، والشاي، وما يقدم للضيوف، وهو مجلس خاص بكبار السن، ووجهاء الحارات، وهو أيضاً مقر عمدة الحارة، ومنه يدير شؤون وظيفته، فكل حي من أحياء المدن الحجازية يكون له عمدة، وهو بمثابة كبير الحارة ووجيهها الأول. وكان لكل عمدة "مركاز" يجلس فيه ويلتقي بأهل الحي وزائريه، بل هو أول ما تقع عليه عينك عليه عند دخول الحارة، ففيه يجتمع صاحب المركاز وبعض الأعيان عادة من بعد صلاة العصر ومن بعد صلاة المغرب، ومشاكل الحارة يتم حلها في المركاز، ودعوات الأفراح يتم إجازتها وكتابتها من خلال المركاز الذي يعتبر بمثابة المركز الالتقائي لكل أهالي الحارة، كما تتم فيه مناقشة كل ما يتعلق بأمور الحي واحتياجاته، واشتهر في ذلك الوقت مركاز "عاشور"، ومركاز "دياب"، ومركاز" باعيسى"، ومركاز "أبو زيد"، ويعد المركاز حاليا أحد المعالم التراثية القديمة التي لا تزال تكافح من أجل البقاء بعد عقود من الزمن مضت بتاريخها المضيء. دين ودنيا بالنسبة لحال القرى قديماً فإنّ الوجيه وكبير القرية غالباً ما يكون هو إمام المسجد الجامع الذي يجمع بين الوجاهة والعلم، ويسميه الناس "المطوع"، بالإضافة إلى عمله الرسمي وهو إمامة المصلين فإنه يدرس في حلق تحفيظ القرآن الكريم في المسجد، ويتقاضى أجرا من أولياء أمور الطلاب؛ مما تيسر من نقود أو طعام، وبقية وقته يمضيه في قضاء مصالح الناس في توثيق البيع والشراء، والمكاتبات وفض الخصومات، والوعظ والإرشاد في الأسواق، والحقيقة بأن مطوع القرية يؤدي أعمالا جليلة لا يستطيع القيام بها العديد من الناس مجتمعين، ولك أن تتعجب كيف يجد هذا الإنسان الوقت الكافي لعمل هذا كله، إضافةً إلى الاهتمام بشؤون بيته وما لنفسه عليه من حق في الترفيه والراحة، ولكن العزيمة والإصرار والتضحية كانت هي سمة جيل الأمس الذي تحمل أعباء الحياة ومشاقها بنفس طيبة وعزيمة قوية طمعاً في ثواب الدارين، وهم بعملهم هذا سطروا سيرتهم بمداد من نور، وصار تتبع حياتهم وانجازاتهم مثار إعجاب الباحثين وطلبة هذا الجيل الذين هم أحوج الى الاقتداء بهم للنجاح في حياتهم. مكانة اجتماعية كان وجيه الحارة وكبيرها يحظى بمكانة اجتماعية مرموقة في حيه، بل في مجتمعه وبلدته ككل، فهو من الأناس الذين يشار اليهم بالبنان فالكل يخطب وده ويكرمه ويقدره، بل ويأوي اليه عند الحاجة، فتراه في مقدمة الحضور لأي زفاف أو مناسبة اجتماعية، ويتصدر المجلس ويقدم في كل شيء سواء في تقديم القهوة والشاي أو "القلطة" على طعام الوليمة أو في الاستقبال والتوديع، وكان كل من يحضر له هذا الوجيه والكبير وليمة أو مناسبة يشعر بالفخر بين أقرانه كيف لا وهو على رأس الحضور وفي مقدمتهم، ومع ذلك فان هذا الكبير والوجيه رغم كل ما يلقاه من تقدير وتبجيل الأمر الذي يجعل المرء يدخله الغرور والكبر ويخالطه الا أنه متواضع ولين الجانب وبشوش في وجوه الناس لا يفرق بين فقيرهم وغنيهم أو صغيرهم وكبيرهم، لذلك فقد زرعت في القلوب محبته فكان كمن قيل عنه: "من لانت كلمته، وجبت محبته"؛ لذا تجد الكل يجلهم ويحترمهم ويتمنى الجلوس معهم والاحتكاك بهم لاكتساب خبراتهم وصفاتهم الحميدة، بل تعدى الأمر ذلك الى تسابق الخطاب وتهافتهم على بناته لغرض الزواج منهن للظفر بذرية تحذو حذوه، وقد خلد التاريخ أسماء العديدين من الوجهاء الذين كان لهم صولات وجولات في الجود والكرم والخلق الطيب، وبقيت لهم مواقف تروى على مر العصور، وقد أثاروا اعجاب الشعراء خصوصاً فسطروا فيهم أجمل القصائد التي حفظت إرثاً كبيراً من أخلاقهم وسيرتهم الحميدة، وهاهو الشاعر "سعد الربيعي" يقول في وصف هؤلاء الرجال: حي الرجال اللي لهم فعل بالطيب أهل الكرم والطيب وأهل الشهامة اللي تخاف الله وتدرى من العيب وتدرى من الزلة وتدرى الملامة مثل الصقور معكفات المخاليب دايم تعلى فوق روس العدامة لا جوهم الضيفان يلقون ترحيب ولضيوفهم يقدمون الكرامة نعم الرجال اللي تعرف المواجيب يلقى المعزة ضيفهم واحترامه لا جاهم المحتاج خالي من الجيب يدعي لهم من طيبهم بالسلامة في قربهم تبرى الجروح المعاطيب وفي شورهم ما تغتشيك الندامة خذوا من الدنيا دروس وتجاريب مجنين اهل الرداء والرخامة كيّة المطوع ومن الطرائف والمواقف التي شهدها أحد مجالس "وجيه الحارة" قصة ذلك الفقير المعدم الذي أقعده المرض في بيته، ولم يجد ما يتعالج به، فذُكر له طبيب شعبي "مطوع" يجيد العلاج ب"الرقية" و"الكي"، وله خبرة ودراية بمثل مرضه، فطلب من بعض أقربائه أن يذهبوا به إليه في منزله لعله يجد عنده علاجاً لما به من الآلام، ولما دخل عليه وتحسس علته أخبره بأن علاجه هو "الكي" ب"مخطر" من حديد، وسيكلفه خمسة ريالات فضة، وهو مبلغ كبير على ذلك الفقير، فوافق على ذلك، فقام "المطوع" بكيّه على بطنه خمس "كيّات" مؤلمات، وذهب الى بيته وماهي إلا أيام وقد استعاد صحته وعافيته وبعد عدة أيام تكررت مطالبة هذا المطوع بأجرته من ذلك الفقير الذي لا يستطيع سداد دينه لفقره المدقع. وفي أحد الأيام صادف المطوع الفقير في مجلس "وجيه الحارة" فطالب المطوع الفقير بأجرة الكي واشتكى المطوع هذا الفقير إلى وجيه الحارة مماطلة ذلك الفقير، فطالب الوجيه الفقير بسداد دينه الذي عليه، فشرح له الفقير حالته المادية وشدة فقره وضجره من هذا المطوع الذي صار يلاحقه بهذا الدين الذي فرضه عليه المرض ليل نهار، فعالج ذلك الوجيه القضية بحنكة وسياسة، فقال للمطوع سوف أسدد لك أنا الدين نيابة عن هذا الفقير، ولكن قل لي أولاً كم كويته من مرة على جسده، فقال المطوع فرحاً لقد كويته خمس كيّات، فقال الوجيه حسناً سوف نوفيك الآن دينك فنادى على صانع القهوة في مجلسه الذي كان لا يفارق النار وقال له ضع "المخطر" حتى نكوي المطوع خمس كيات لنوفيه دينه، فقام المطوع فزعاً، فقال أنا لا أريد الكي بل أجرة الكي، فقال الوجيه أنت تعلم أنّ الفقير لا يستطيع أداء الأجرة فنريد أن نرد لك الخدمة نفسها، فقال المطوع لقد تنازلت عن أجرتي وسامحته فاعفني من الكي، فضحك الوجيه والحضور وفرح الفقير بخلاصه من الدين الذي أثقل كاهله.