«المركاز» الموقع الشهير الذي يتوسط الحارات الشعبية العتيقة في مشهد يجتمع فيها كبار السن يتحدثون عن ماضيهم الجميل وتراثهم المجيد، حيث يحلو الحديث وتنشرح الصدور لرؤية مسني الحارة «الشيبان» وهم يترقبون المارة، فتبدأ رحلة المقارنات بين جيلين، سابق وحاضر. ولعل ما يلفت النظر أن المركاز في نسخته الأصلية لقي شهرته عند أهل المنطقة الغربيةجدة ومكة والمدينة المنورة والقنفذة. منذ أشهر بسيطة فقط، وفي نقلة نوعية وقالب مجتمعي جديد بات يحتضن العديد من الشباب الذين باتوا على وفاق مع كبار السن، وفي جدة أحيا الشباب المشهد الغائب من خلال تجهيزهم للمركاز من الرابعة عصرا بانتظار جلسة السمر مع العمد وأعيان الحارة وعاشقي الجلسة الشهيرة. لا يعتقد الشاب ابن ال25 عاما رامي بن علي أن المركاز مرتبط بما يتصور البعض أنه ل «الشيبان» أو حتى العجائز بلهجة الحجاز: «ولكن المركاز أشبه بالنادي بلغة العصر، أو هو ما يقارب الديوانية في الكويت وبعض دول الخليج، أي أنه ملتقى لأفراد الحارة، بغض النظر عن السن والمكانة الاجتماعية وهو ملتقى يجتمع فيه الأصدقاء، يعمقون من خلاله تواصلا إنسانيا، يتحدثون عن الحياة والحب والكره والناس والشعر والكتب والأمس واليوم والغد، ويتسلون فيه أيضا بممارسة لعبة من ألعاب التسالي مثل كيرم، دومينو، بلوت، كنكان، شطرنج، طاولة، وبالتأكيد المركاز تقليد موجود في كل المدن والمناطق، ولكن بأسماء مختلفة، وأتذكر أننا في فترة المراهقة ومرحلة الشباب المبكرة، خلقنا مركازا لنا في الحارة، نلتقي على ربوة جميلة تطل على الحرم بحي المسفلة، على مقربة من عيون الأهل والجيران، نلتقي فيه عقب عودتنا من التمرين، نستذكر فيه دروسنا، نسمع موسيقى، ونتأمل الحياة، والمركاز يعد قلب الحارة النابض والمحرك لها فكل الأمور الاجتماعية تدار بذلك المركاز، كما أن الأهالي لا يقلقون، ولا يتعبون في البحث عنا، فهم مطمئنون على أننا في المركاز الذي نغلقه في حدود التاسعة أو العاشرة ليلا، وفي نهاية الأسبوع أو ما يعرف بالإنجليزية بالويكند يتسامحون معنا فنجلس ربما إلى الثانية صباحا». نقطة التقاء ويرى الشاب محمد جابر أبو زيد أن المركاز تقليد اجتماعي جميل، حيث كان يحفظ وجود أهالي الحارة، ويمنحهم الأنس، قبل مداهمة الطفرة وما تفرع عنها من عزلة، أفضت إلى توحش، ووحشة بين الناس، مؤكدا أن النادر من العوائل التي عمدت إلى الاحتفاظ بتلك المراكيز بعد التوسع العمراني الكبير، مشيرا إلى أن أبناء موسى الهوساوي، يرحمه الله، في إحدى الحواري بحي المصفاة بجدة أكملوا مسيرة والدهم في الاحتفاظ بمركازه من خلال تطويره إلى دكة ووضع ماء سبيل للمارة كنوع من الوفاء والتذكار لحياة والدهم: «مركازنا أيضا يعد الآن معلما في الحارة حيث يلتقي الشبان فيه وينطلقون بحيث أصبح نقطة التقاء للكثير منهم». جامعة الحارة ويرى عمدة حي الهنداوية عبدالله أبو سبعين أن المركاز مركز ثقافي اجتماعي: «المركاز هو الجامعة والملتقى حيث يناقش فيه العمدة مع أعيان الحي كل ما يتعلق حول أمور الحي واحتياجاته، بالتشاور بين وجهاء وأعيان ومشايخ الحي، وهو مستودع أسرار العوائل وأحوالهم، ويباشر من خلاله رصد الحالات الفقيرة والأرامل وتسجيل المحتاجين من أهل الحي لدى الجهات والجمعيات، ويناقش احتياجات الحي لدى الإدارات الحكومية، كما يقوم المركاز بدور إصلاح لذات البين، كما أنه ترفيهي في آن معا، وفي الماضي كان لكل منزل مقعد في منتصف المنزل، ونستطيع أن نسميه أيضا المركاز وكان يصنع من الخشب الجاوي أو الزان ويتم عليه نقش رسومات جميلة تميزه في تلك الحقبة، ومع الاتساع العمراني تغير مكان ذلك المركاز من داخل البيت إلى خارجه، ليكمل دوره من خلال اجتماعات الأهالي والأعيان لتداول الأحاديث ومناقشة الأوضاع في الحارة، فكان حلقة وصل فيما بين الجميع». وعن شكل المركاز بين أبو سبعين أنه: «كرسي خشبي له ظهر وله مسندان خشبيان أيضا، ويوضع على الخلفية قماش ليزينه وكذلك قطيفة لراحة الظهر، ويكون أمامه طاولة يوضع عليها الماء المبخر أو الماء المضاف عليه المستكة، ويجتمع فيه صاحب المركاز وبعض الأعيان عادة من بعد صلاة العصر ومن بعد صلاة المغرب، ومشاكل الحارة يتم حلها في المركاز ودعوات الأفراح يتم إجازتها وكتابتها من خلال المركاز، الذي يعتبر بمثابة المركز الالتقائي لكل أهالي الحارة ولكل أهالي الحارات المجاورة». بعد نصف قرن ويتأسف أبو سبعين لأنه: «اندثرت تلك الأشياء الجميلة في كثير من أحياء جدة، وحي الهنداوية أحد الأحياء التي اشتهر بكثافة المراكيز في السابق، حيث كانت به عشرات المراكيز قبل أكثر من 50 عاما مضت، وكان أشهر من يزور مركاز عمدة الهنداوية، الدكتور أحمد عيد باستمرار، وكذلك أبناء الشيخ بابقي ومجموعة كبيرة من أعيان، وأهالي حي الهنداوية فيعرفون الأخبار ويكون ملتقاهم في مركاز العمدة، أو في مركاز أي أحد من الأعيان». ويشير العمدة أبو سبعين إلى أن أمنيته: «عودة تلك المراكيز، لأنها هوية الأحياء في الحاضر والماضي، وأهميتها تتمثل في مناقشة قضايا الحارة ومحاولة حلها، كما يتمكن العمدة من حل الخلافات بين العائلات دون اللجوء إلى الشرطة، وكثير من البيوت الحجازية كانت تجعل من المركاز اجتماعا عائليا بحتا بحيث يتم تخصيص يوم الجمعة كيوم عائلي يجتمع فيه أفراد العائلة في المركاز من بعد صلاة الجمعة على وجبة الغداء حتى وقت صلاة العصر، ويتم فيه تداول المواضيع العائلية بين الكبار بمشاركة الصغار وإسداء النصيحة للشبان من خلال تلك الجلسات، حتى تميزت العائلات الحجازية بالتواصل الاجتماعي من خلال تلك المراكيز، ورغم مرور الزمن إلا أن مركاز العمدة بحي الهنداوية لايزال يقوم بدوره كالماضي، مع دعم كبير من قبل الأهالي ممن يزورون المركاز ويستأنسون بالجلسة فيه وقت فراغهم». بيت الحكمة ويردد عمدة حي الشاطئ طلعت محمد عبارة: «في المركاز تجد الحكمة والفكرة، وياما في المراكيز حكم وأمثال». ويؤكد أن المراكيز في السابق كانت منتشرة وتعد واجهة لأي حي: «المراكيز كانت هي التي تشهر أصحابها، ففي جدة مثلا هناك بعض تلك المراكيز الشهيرة، والتي أنشئت قبل عشرات السنين ومنها مركاز عاشور ومركاز دياب ومركاز باعيسى ومركاز أبو زيد، كما يوجد غيرها العشرات من المراكيز، حيث تعد تلك من المراكيز المشهورة، وكانت عبارة عن ملتقى للنصيحة والإرشاد، والشبان كانوا يهتمون بالحضور لها لأخذ النصيحة قبل الإقبال على الزواج أو أي مشروع آخر، إلا أنه أخيرا أثرت التركيبة السكانية كثيرا في كل شيء، فبات رؤية مركاز في أي حي أمرا نادرا، لكنها تبقى محتفظة بطابعها على أنها عامل اجتماعي مهم جدا لكافة أفراد الحارة في الماضي». طابع مميز ويتذكر عمدة الحي الغربي بمدينة القنفذة وائل بابيضان المراكيز المتميزة في ماضي مدينة القنفذة، كمركاز بانقيب ودحمان: «كانت تلك المراكيز الحجازية عبارة عن ملتقى للحكواتية أيضا، حيث يتم سرد قصص أبو زيد الهلالي، وغيرها من القصص في قالب تمثيلي ويتم إكمالها في اليوم التالي، وكانت تلك المراكيز بمثابة الترويح عن النفس بالنسبة للأهالي في ظل عدم وجود ملاعب أو أماكن ترفيهية في تلك الحقبة من الزمن، ومع تغير الزمن إلا أنني أؤمن بأهمية وجودها كونها طابعا ثقافيا مميزا». لا عودة بدوره يرى المتخصص في علم الاجتماع الدكتور أبو بكر باقادر أن الماضي لا يعود كالماضي، ولكنه يتطور، مشيرا إلى أن المراكيز في الماضي تغيرت أو استبدلها الشبان وكافة عناصر المجتمع، إن صح التعبير، بالمقاهي والصوالين: «كان المركاز في الماضي حلقة الوصل بين وجهاء الحارة وعمدتها وبقية أفراد الحارة، أما اليوم فيستطيع أي فرد مناقشة أي موضوع في مراكز أو مقاه حيثما شاء نظرا للاتساع العمراني، ولتغير عادات الناس، وباتت أماكن تجمع الناس تحكمه ميولهم، كما بات التقاء الناس مع بعضهم حاليا يرتبط في أكثر الأحوال بالميول والرغبات، واستبدل الناس تلك المراكيز بجلسات المقاهي التي تقدم الشاي والقهوة كنوع من مواكبة التطور أيضا». وترى الإخصائية الاجتماعية وفاء الشمري أن المركاز مركز إرشادي اجتماعي من الطراز الأول، لافتة إلى أنه كان يؤدي دورا كبيرا للصغار والشبان. وتطالب الشمري بأهمية أن تعود تلك المراكيز من جديد، مؤكدة أن الكثير من العادات السلوكية السلبية للشبان انتشرت، ولو كانت تلك المراكيز حاضرة لما وجدت تلك السلوكيات مثل ارتداء الملابس غير اللائقة، والتي انتشرت كثيرا خلال الفترة الحالية: «يبقى المركاز صدر الحارة أو الحي والذي يقوم بدور اجتماعي مميز جدا من خلال تبادل الأحاديث النافعة ومعرفة الأخبار والتواصل أيضا، وأعتقد أن عودة تلك المراكيز لسابق شكلها عودة لهويتنا وثقافتنا وتراثنا أيضا»