في بعض الأحيان تنتابني هواجس بعيدة..أستلقي على فراشي وأتخيل لو قدر لي أن أعود إلى هذه الدنيا بعد مئة سنة ما الذي سأراه. لا أتمنى أن أعيش مئة سنة قادمة بل أن أعود إلى الحياة. ليس من الإثارة أن أشارك في التنامي الطويل وأنا أتخبط في وحل الشيخوخة. عندما تقرأ وتدرس الحياة قبل مئة عام من اليوم سترى أن العالم تغير بشكل دراماتيكي. لا تلفزيون ولا طائرات ولا سيارات ولا جوالات ولا عمائر شاهقة وقائمة لا حصر لها من الغياب ومعدل عمر الإنسان أربعين سنة. أما إذا عدت بخيالك ب(مساعدة التاريخ) ألف سنة إلى الوراء سترى أن الوضع كان عجيباً. نتحدث في أيامنا هذه عن شيء اسمه الأجيال. في تلك الأزمنة لا يوجد شيء مثل هذا. كل جيل هو مكرر الجيل الذي سبقه. يغيرهم قليلا الطقس أو السياسة والحروب والباقي في حالة ثبات مريع جيلا بعد جيل. التكرار وضعف الاتصال بالآخر يرسخان العادات والثقافات والإيمانات جيدها وسيئها على حد سواء. هذا الثبات الطويل هو ما ندفع ثمنه اليوم حروباً وكراهية وأيدلوجيات. انتهى عالم السكون ذاك إلى الأبد. صار الإنسان يتغير بسرعات هندسية. هذا يجعل تخيلي للمستقبل أمراً بعيد المنال. الخيال لا يعمل من فراغ. يستخدم الأدوات المتوفرة ويبني عليها بعون من الأمنيات والآمال والرغبة. سيعمل خيالنا بهذه الطريقة: ما الذي سيكون عليه الجوال ما الذي يمكن أن تكون عليه الإنترنت والسيارة والطائرة الخ. المسافة من الرياض إلى نيويورك تقطعها الطائرة اليوم في ثلاث عشر ساعة ربما تتطور لتصبح المسافة ساعة واحدة. يستطيع المرء أن يسكن في نيويورك ويداوم يوميا في مكتبه في الرياض. هذا الافتراض مبني على أدوات اليوم (الطائرة) ومبني أيضا على حاجات اليوم (الذهاب إلى المكتب) وبعض الرغبات الصغيرة المضمرة. تنبؤات كثيرة أجريت في الماضي تبرهن خطأ مثل هذا التصور. في السبعينات من القرن الماضي توقع علماء المستقبل (الباحثون في شؤون المستقبل) أن تتوقف مطابع الصحف التقليدية الشاملة ويحل محلها مطابع منزلية. ترسل إدارة التحرير المادة الصحفية عبر الأقمار الصناعية إلى الأجهزة المركبة عند المشتركين وتطبعها لهم. لم يحدث هذا رغم أنه كان أكثر التخيلات واقعية ومقوماته كلها متوفرة. الخلل فيه أن أساسه أقيم على معطيات وحاجة الزمن الذي تم التخيل فيه. في ذلك الزمن لا يوجد آي باد ولا جوال. يكاد يكون ذاك التخيل سخيفا الآن رغم وجاهته حينها إذا عرفنا أن الجرائد الورقية تواجه تحدياً تقنياً وبيئياً يمكن أن يخرجاها من الوجود. على هذا تخيل ما يمكن أن يكون عليه الجوال أو التلفزيون أو الإنترنت وغيرها مما نحتفل بعظمتها ساعتنا هذه. يمكننا تحمل تبعات التغيرات المادية الكثيرة وربما سأفرح عندما أصادفها عند عودتي بإذن الله بعد مئة عام (توصون على شيء!!)، بيد أن التغيرات السريعة لن يقف تأثيرها على التكنولوجيا. سيتغير شكل الإنسان وكثير من تفاعلات عواطفه وثقافاته. هل يستمر الغرب يحكم قبضته الثقافية والعلمية على العالم ولكن من يقف أمام قوله تعالى (وتلك الأيام نداولها بين الناس..) الشيء المؤكد الذي لا يمكن أن يخرج من التوقعات أن حظنا سيكون ضعيفاً. لا يمكن لأحفاد أمة أنتجت داعش والنصرة وجيش الإسلام وكل من ناصرهم في الرياض أو في مقديشو أو أي مكان من هذا العالم أن يكونوا ضمن أمة تقود العالم. ترى كيف سيكون العالم الذي سوف أعود إليه عام 2114.