ما أكثر مشاكل الشاب! بل ما أكثرها تشابهاً.. فهذا شاب يشتكي من الحياة ليس لأنها صعبة وصلبة أمام طموحه، بل لأنه لا طموح له وذلك بسبب حياة الترف التي سلبته طعم الحياة وجعلته يشعر بأنه زائد عن الحاجة ولا لزوم له.. وكنت منذ سنوات قد التقيت شاباً مثله يعيش الحالة نفسها والمعاناة نفسها. وقد أشرت إلى ذلك في حينه وقلت: هو من هؤلاء الشبان حديثي السن التقيت به في إحدى الرحلات الجوية حيث كان مقعده إلى جانب مقعدي.. تحدثنا طويلاً فالرحلة طويلة.. كان بسيطاً وساذجاً وقليل الحظ من الثقافة والدراية والمعرفة تربى في بيت ينعم بالرفاهية وربما البذخ حيث يرى وجوه الخدم أكثر مما يرى فيه وجه أمه وأبيه. حاولت أن أستنبط ثقافته فوجدتها عن الأفلام الساذجة وعن الفن الساذج وعن الكرة وعن اللبس والأكل والنوم والأصحاب الذين يقضي جل وقته معهم في شوارع المدينة ليلاً. كان يقول لي إنه يعاني من قلة النوم.. وإنه يعود عند الفجر فيظل يتقلب في فراشه إلى أن تزعجه حركة الحياة اليومية في الشارع والبيت، وقال إنه في بعض الأحيان يسيطر عليه خوف غامض لا يدري ما هو.. وإنه مسافر اليوم ليلتقي ببعض أصحابه في لندن للتسلية وليغير من نمط حياته.. كان مهذباً وكان خجولاً قلت له ولكن أين الدراسة؟ تنهد بصوت مسموع وقال: فصلت من الجامعة لتعثري الدائم.. قلت ولكن لماذا تعثرت؟ قال لا أدري غير أني أحس أن نفسي «مسدودة» عن الدراسة لا أرغب في قراءة الكتب لا أحب منظر الكتب لا أحب الجلوس إلى مقاعد الدراسة. بل أشعر بكراهية أحاديث المدرسين وشرحهم، لا أشعر أن فيما يقولونه أو ما يطلبونه مني فائدة لي، لذا قابلت ذلك بالكسل والخمول وعدم التركيز لما يقولون فلم أنجح!! قلت: لماذا لا تعمل؟ ضحك وقال ماذا أعمل؟ ولماذا أعمل؟ ما ينفقه عليّ والدي ربما يفوق راتب الوظيفة عشر مرات!! قلت الوظيفة ليست فقط للحصول على المال.. إنها تعلمك الاعتماد على النفس، تعرفك على الآخرين تفتح لك نوافذ الحياة.. الوظيفة حركة والتزام وانضباط. قال بسذاجة: هل تريد ان يتأمر عليّ من هو أصغر مني مقاماً؟ قلت إذا كان الأمر كما تقول فلماذا لا تؤسس عملاً خاصاً بك وتصبح أنت فيه الآمر الناهي؟ المهم أن تعمل وأن تتحرك.. قال: وهذا أيضاً وجع رأس هل تريدني أن أتابع هذا الأمر وأطلب إنجاز ذلك الأمر، وأن أركض وراء هذا وذاك ولديّ من الخير العميم، والرزق الوفير ما يجعلني في غنى عن هذه البهذلة؟!! قلت له بشكل مفاجئ في ماذا تفكر فيه الآن؟ قال: هاه لا أدري إلا أنني سوف أقابل أصحابي سنسهر سوية ونأكل سوية، ونضحك سوية ثم نعود.. شعرت بغم يقبض قلبي وشعرت بحزن على هذا الشاب الذي يتدفق صحة ونضارة، وعلى هذه الطاقة التي تهدر في لا شيء.. وقلت في نفسي كم لدينا وفي مجتمعنا من أمثاله من أولئك الذين يموتون وهم أحياء. بل شعرت بشيء يشبه تأنيب الضمير وكأنني شاركت في ضياع هذا الشاب البائس المسكين ومن هم أمثاله من العاطلين عن كل شيء الا عن الأكل والشرب والنوم، ورحت أعقد مقارنة معه ومع أمثاله في المجتمعات الغربية الذين يناضلون، ويكافحون ويحفرون بأناملهم الطرية طريق مستقبلهم في الحجارة والصخور، يستيقظون قبل العصافير يذهبون إلى الجامعات أو إلى المصانع، أو إلى إلى المتاجر والبنوك والأعمال الأخرى يتدافعون في الباصات، والقطارات والقطارات الأرضية يعتمدون على أنفسهم يسكنون وحدهم وينظفون مساكنهم ويغسلون ملابسهم ويدفعون الضرائب ويمارسون الرياضة ووجوهم تتدفق بالأمل والطموح وحب الحياة.. لا أحد يتكفل بهم ولا أحد يرعاهم ولا أحد يدفع عنهم حتى وجبة إفطارهم.. قلت في نفسي إن مشكلتنا في التربية!! إننا نتحدث عن حقوق المرأة، وعن حقوق الرجل ولا نلتفت إلى حقوق الشبان والمراهقين الذين نرميهم على أبواب الحياة.. الحياة الصعبة المعقدة الطاحنة والتي لا مكان فيها للخاملين والنائمين والكسالى.. وقلت إننا نجني على مثل هؤلاء بعدم الالتفات إليهم والعناية بهم ومعالجة أوضاعهم.. صحيح ان هؤلاء قد لا يشكلون كثرة في مجتمعنا وان هناك شباناً يعانون من خصاصة العيش.. يكافحون ليل نهار يطاردون لقمة العيش الصعبة والتي لا يتجرعونها إلاّ ممزوجة بالمرارة والعرق والنكد، وان هناك بيوتاً مكدسة بالعاطلين والعاطلات.. ولكن ذلك الصنف المترف أيضاً يشكل ظاهرة اجتماعية خطيرة.. هؤلاء الذين تعطل لديهم الإحساس بالطموح والأمل وماتت في داخلهم نزعة حب الكفاح لأن كل ما يتمنونه يجدونه يسعى بين أيديهم، فتحولت حياتهم إلى دوامة من اليأس والملل والقنوط والكآبة إلى درجة قد يجدون أنفسهم معها يعيشون داخل مصحات نفسية!! هؤلاء لابد أن تتضافر الجهود من قبل المربين والاجتماعيين، والكتّاب للبحث عن الحلول من أجل إنقاذهم.. للبحث لهم عن مشكلة تخرجهم من واقعهم الذي يحسون فيه بأن مشكلتهم الكبرى هو الضياع وربما عدم معرفة المشكلة!!