نحن على شفا كارثة حقيقية. ومن الضروري إيجاد توافق مصالحي بين طوائف المسلمين في العالم العربي اليوم، وتدعيم الرؤية التي تؤكد أن لا أحد سيكسب بإقصاء الآخر، وأن منافع التعايش السلمي تفوق بمراحل ما يتوهم أنه من منافع الاحتراب/ التدافع الطائفي بعد أن عرضت في المقال السابق شيئاً من مأساوية واقعنا الطائفي الذي يتلبس به المذهب الديني بالسياسية أو العكس، أحاول اليوم تقديم بعض الرؤى الإجرائية المقترحة التي من شأنها أن تحد من مأساوية المشهد؛ إن توافرت الإرادات الصادقة التي تضع الإنسان على قائمة أولوياتها. وهي مجرد رؤى، لا أتقدم بها كحلول سحرية قادرة على اختراق عتمة هذا الواقع الموبوء بالتعصب وبالكراهية المنفلتة، وإنما أتقدم بها كإسهام يتعاضد مع بقية الإسهامات في هذا المضمار؛ من أجل الوقوف في وجه هذا الطوفان الطائفي الزاحف على واقعنا بكل عنفوان التاريخ الهادر بغضبه المجنون. لكن، قبل الشروع في عرض هذه الخواطر العابرة حول إشكالية غير عابرة؛ لا بد من التأكيد على حقيقة أنه لا يمكن الخروج سياسياً من هذا المشهد الدامي إلا بالخروج منه طائفياً، لا بإلغاء المذهب/ الطائفة فهذا غير ممكن، وغير مفيد، وغير مطلوب ، وإنما بالحد من عملية تسييس المذهب ومَذْهبة السياسة؛ لأن الأزمة في تجلياتها الراهنة كامنة في طبيعة العلاقة بين الدين والسياسية، وتحديد في الأبعاد الوظائفية لهذه العلاقة، وليست في السياسة، كما أنها ليست في الدين. كثير من هذه الرؤى لا تحتاج إلى الاستبصار بها فحسب، وإنما تحتاج إلى الجرأة في تنفيذها أيضاً. نحن هنا بحاجة إلى العلم بقدر حاجتنا إلى الشجاعة؛ لأن الموضوع بقدر ما هو ملغوم فكرياً؛ هو ملغوم اجتماعياً وسياسياً. بل إن كثيراً مما أذكره يعرفه من حيث المبدأ التصوري معظم المُكتوين اليوم بنار الطائفية، إذ هم يدركون أن الخطوة الحاسمة هي خطوة عملية. ومع كونها كذلك كما يعرفون ويعترفون، إلا أنها تبدأ من رجل الدين كسياسي، ومن رجل السياسة كمتدين أو كمُتظاهر بالتدين؛ لتكون الخطوة الأولى فكرية تحاول تجريد العلاقة (علاقة المذهب بالسياسة) قدر الإمكان. إذن، للخروج من المأزق الطائفي الذي لا خيار لنا وجودياً إلا بالخروج منه؛ وإلا فهي حروب الإبادة الأهلية، لا بد من الإقدام على ما يلي: 1 ضرورة فحص التاريخ الذي هو منبع المشروعية الطائفية فحصاً علمياً، بحيث يتم إعادة الاعتبار لكثير من الوقائع والشخصيات، بعيداً عن ركام المبالغات التي قاد إليها التعصب الأعمى والجهل الفظيع، مع محاولة تثبيت المشتركات الدينية والإنسانية كثوابت جامعة تحكم منطق الاختلاف مهما كان اتساعه، لا أن يحدث العكس؛ فتنقض الهوامشُ الخلافيةُ كثيراً من الثوابت الأصولية والإنسانية التي تجتمع على تأصيلها وتثبيتها كل الطوائف التي ترعى اليوم واقع الصراع الطائفي على امتداد العالم العربي. طبعاً، هناك من يرى العكس، وهو: ضوروة السكوت عن الماضي، وتجنب نبش التاريخ؛ لأن مثل هذا الفحص العلمي لن يجر بزعمهم إلا إلى مزيد من الاختلاف وإثارة الضغائن أكثر مما هي مثارة الآن. وهذا الرأي يصح إلى حد ما ؛ لو أن السكوت حاصل فعلاً، ولو أن من يحاول فحص ذلك التاريخ بمنهجية علمية محايدة يطرق موضوعاً من المواضيع المطمورة في ذاكرة النسيان. لو أن الأمر كان على هذه الحال لأمكن التوافق وفي حدود مع تصميت التاريخ لصالح الحاضر. ولكن ما يحدث في الواقع هو العكس، إذ التاريخ ناطق ومستنطق لدينا على أوسع نطاق، إنه اليوم تاريخ ناطق بالتعصب والكراهية والمعلومات المعطوبة والتصنيفات الجائرة. فهل نترك لسدنة خطاب الجهل والتعصب، ولمُمتهني الترويج للكراهية صناعة وعي الناس من خلال صناعتهم للتاريخ الذي لا تزال الأغلبية الساحقة من جماهيرنا العربية تعيش فيه معرفة ووجداناً على أوسع نطاق. إن الإشكاليات الطائفية التي يجري استثمارها اليوم سياسياً هي بكل جدارة إشكاليات تاريخية، ولا يمكن تجاوزها إلا بفحصها معرفياً، وكشف منعرجات ومنعطفات التزييف والتلفيق والتدليس. إننا هنا أمام أحد طرفي المعادلة، أي كون الإشكالية الطائفية هي إشكالية تاريخية؛ بالقدر الذي هي فيه إشكالية سياسية راهنة. هنا التاريخ، وهنا السياسة، فكما يجب فضح التوظيف السياسي الراهن للإشكالية الطائفية؛ يجب فضح البدايات الأولى للتشكل الطائفي الذي هو في جوهره تَشكّل سياسي يتوسل المعرفة تزييفاً وتزويراً. ولكي يكون هذا الفحص التاريخي ممارسة علمية بحق يجب أن تُبنى العقائد على نتائج البحث وليس العكس. بمعنى أن يُقدم الباحثون على موضوعاتهم متجاوزين ولو مؤقتا تحيزاتهم العقائدية الهامشية التي ترسخت في التاريخ وبالتاريخ، لا أن يضعوا قواعد المذهب محطة انطلاق يُحاكمون إليها الحقائق التي يكشفها البحث العلمي، بدل أن يحاكموا الحقائق إليها. كي تقرر أن هذه الواقعة حدثت على هذا النحو، لا بد أن يكون ذلك نتيجة بحث علمي تاريخي، لا نتيجة اعتقاد مسبق يفترض يقيناً أنها وقعت على النحو. لا يمكن أن تصنع الحقيقة من خلال المعتقد المسبق؛ تحت وطأة أن أي خلل سينقض شئياً من مسلمات الهيكل الاعتقادي للمذهب الذي أصبح محور الانتماء ومعقد الولاء. أدرك أن هذه عملية صعب وشائكة معرفياً واجتماعياً ، وأن بعض النتائج قد تكون صادمة لكثير من جماهير المتدينين من كل الطوائف بلا استثناء. لكن، لا بد من هذا الإجراء الجراحي العميق؛ للتخفف من ركام الأوهام التي تطاولت على مدى أربعة عشر قرناً من صراع الأشقاء على التاريخ، الصراع على التاريخ بوهم الصراع على الحقيقة، أو الصراع على الحقيقة بوهم الصراع على التاريخ. وحتى تجري هذه العملية (الفحص التاريخي) بأقل قدر من التهييج الطائفي لا بد من أن تكون نقداً علمياً مجرداً، قابلاً للرد والنقض بمثله، وبعيداً عن كل الملامح الهجائية؛ إلا ما تقرره التوصيفات العلمية التي من مهمتها توصيف وتصنيف الوقائع والشخصيات، من دون تجريح، ولكن من دون مجاملة أيضاً، حتى ولو كانت مجاملة عابرة لتلك الشخصيات التي ترتفع إلى السقف المعياري لتطلعات جماهير المتدينين. 2 ضرورة التأسيس للوعي المدني، الذي هو شرط التعايش السلمي. والوعي المدني لا يتأسس بمجرد الدعوة إليه، ولا بمجرد الحشد الدعائي له، بل ولا بنقض ما يتضاد معه في المعرفة العامة التي هي في عمومها معرفة تاريخية، وإنما بإقامة المؤسسات الفاعلة التي تلامس كل تفاصيل حياة الإنسان على أساس مدني محايد. والحياد المدني هنا لا بد أن يكون حياداً تاماً غير منقوض بأي وجه، وإلا سقط مبدأ المدنية من الأساس. إن علمية الفحص التاريخي التي أكدت عليها في الفقرة الأولى لا تجدي لوحدها، فهي لا يمكن أن تنهض في الواقع أفكاراً مجردة؛ ما لم يعضدها الواقع بمؤسساته التي تدعم عمليا مبدأ انفتاح الطوائف بعضها على بعض. فالإنسان ليس كائناً عقلياً فحسب، بل هو كائن عقلي بمُوجّهات وجدانية/ غرائزية قادرة على التحكم بمصائر المعقول إلى حد بعيد. وإذا كان الفيلسوف العظيم: اسبينوزا يؤكد أننا لا نرغب في الشيء لأنه حسن، وإنما نراه حسناً لأننا نرغب فيه؛ فإن تحول المؤسسات المدنية إلى مؤسسات فاعلة/ عادلة (ولا فعالية هنا بلا عدل) سيجعل الإنسان أقل رغبة في التشبث بتحيزات طائفته، ومن ثم أكثر تقبلاً للنقد العلمي الموجه إليها، ولن تكون (رغبته) فيها بذات المستوى الذي كانت عليه فيما لو كانت هي التي تقوم بدور تلك المؤسسات المدنية التي تقدم له فعالية ذات عائد نفعي مباشر، كما تُقدّم له ما يراه عدلاً وإنصافاً مقارنة بما يتضافر عليه الآخرون. الإنسان، ولأنه كائن يمتزج فيه العقلي بالوجداني، قد يرى شعر أم لم يشعر اللامعقول: معقولاً، لا لشيء؛ إلا لأنه الأجدى له في توفير الضروريات المادية والمعنوية، وقد يرى المعقول: لا معقولاً، لا لشيء؛ إلا لأنه يحرمه من الضروريات المادية والمعنوية. فالإنسان تم تصميمه طبيعياً (بكل أجهزته الفسيولوجية والسيكولوجية) ليحافظ على وجوده المادي والمعنوي. وعندما يستشعر المرء أن الطائفية المتعصبة تحقق له (وليس شرطاً أن يكون المكتسب فردياً، بل قد يكون جماعياً؛ فتفكر الجماعة بمنطق الفرد) ما لا تُحقّقه له المؤسسات الفاعلة في المجتمع، وخاصة إذا كانت غير فاعلة أو غير عادلة، فإنه يرتبط بها وبمقولاتها التاريخية المتعصبة أكثر فأكثر. بل قد يبحث الإنسان عن العدل في التاريخ ولو وهماً، إذا لم يجده في الواقع، وفي المقابل، قد يتعامى عن ظلم التاريخ، ويقبل بتعديل المظلوميات؛ إذا ما وجد العدل ماثلاً في الواقع. فالإنسان مشدود إلى واقعه، إلى حياته المباشرة، إلى ما يتماس معه، أكثر من انشداده إلى أي شيء آخر، حتى ولو كان ذلك الشيء الآخر مقدسات التاريخ، تلك المقدسات التي قد لا ينفعل معها إلا تحت وطأة الواقع الأليم الذي يبعثها من رماد القرون. 3 بإزاء إقامة المؤسسات المدنية الفاعلة والعادلة، يجب منع كل المواضعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تجعل مصالح الفرد مرتبطة بالهوية الفرعية (المذهبية) أكثر من ارتباطها بالهوية المدنية/ الوطنية. وهنا لا بد من سن القوانين التي تُجرّم العنصريات بكل أنواعها، وخاصة العنصرية المذهبية، بحيث لا تستطيع أية مؤسسة اجتماعية تمتهن تقديم الخدمات أن تَفرِز المنتفعين منها أو العاملين بها على أساس طائفي، أو على أي مُفاصلة عنصرية أخرى. نعم، قد تحدث بعض الخروقات لمثل هذه القوانين، وقد يتم الاحتيال عليها بوسائل شتى. وهذا يحدث في كل دول العالم على اختلاف في نوعية ومستويات الاختراق. لكن، لا يعني هذا أن جدواها على المدى البعيد غير متحققة. إنها في كل الأحوال تُسهم في بلورة وعي مدني عام؛ عندما تُقرّ أفضل المبادئ والقيم في شكل تَمثّل مؤسساتي متجسد في الواقع، يُذكّر الجميع بحضور هذه القيم والمبادئ في كل آن. 4 كشف زيف الزعماء الطائفيين الذين يسعون للتربح المادي والمعنوي من خلال تأجيج الصراع الطائفي. ومن هؤلاء الوعاظ ومُدّعو العلم الذين يسعون إلى شيطنة الآخر الطائفي، وتصويره في صورة العدو المتآمر منذ فجر تاريخنا وإلى اليوم، وبناء شخصيات أسطورية لتأكيد هذه الأوهام. هؤلاء للأسف كثيرون جداً في عالمنا اليوم، يرتفع نعيقهم في منابر الخطابة وفي المنابر الفضائية والتصريحات السياسية الخرقاء. إنك تجدهم يسعون في ظل غياب الأنظمة العقابية الرادعة إلى اتهام أبناء الوطن الواحد بكل المُوبقات من كفر وزندقة وخيانة وطنية و...إلخ تلك التهم الجوفاء التي يمتهنها صناع خطاب الكراهية بامتياز. إن التعامل مع هؤلاء يجب أن يكون على مستويين: مستوى قانوني عقابي، يُدينهم بأية تهمة تكفير أو تخوين تخرج من أفواههم أو من أقلامهم إلى العلن. ومستوى معرفي يفضح خطابهم المتزمت من أساسه، حتى ولو ذهب في سبيل ذلك كثير من الرموز الاعتبارية في المنظومة التقليدية التي يمتاحون منها مقولاتهم في التضليل والتكفير والتخوين. 5 ضرورة إعادة قراءة المنطق الديني عند كل طائفة من قبل أبنائها خاصة. وهذا يختلف عن الفحص العام للتاريخ الذي سبق ذكره، مع وجود علاقة بينهما. هنا، لا بد من التأكيد على ضرورة الفحص العقائدي للمسائل عالية الحساسية، والتي تتسبب في تأزمات طائفية منذ أكثر من ألف عام. ولأنها على درجة عالية من الحساسية، فلا بد أن يتم نقدها من الداخل، من داخل الطائفة، إذ لا ينفع أن يقرأ أحد هذه المسائل من خارجها؛ لأنها ليست مسائل معرفية خالصة بحيث يتم تجاوزها بكشفها، وإنما هي مسائل تداخلت مع الوجدان الإيماني، بل تداخلت معه في أبعاد المفاصلة الطائفية التي هي وقود الصراع. ومن حيث هي كذلك؛ فكل من يتعرض لها من خارج دائرة المؤمنين بها أو الذين كانوا يؤمنون بها سيصطدم بتهمة العداء المذهبي التي تزيد من مستوى التمسك الجماهيري الغوغائي بها. 6 إحالة المذاهب/ الطائفيات إلى رهانات سياسية واقعية تحد منها. فكما أن رهانات السياسة تبعاً لوجهة الاستنفاع تؤجج الطائفية وتزيد من درجات التعصب، فهذه الرهانات تستطيع إذا ما تبلورت لتخدم مصالح مشتركة تعود بالنفع على كل الأطراف أن تخدم التسامح الطائفي، وستتمهد الطريق فيما بعد للتنازل حتى عن قضايا ومسائل كان المتعصبون ساسياً/ دينياً يضعونها في مرتبة الثوابت والأصول. نحن على شفا كارثة حقيقية. ومن الضروري إيجاد توافق مصالحي بين طوائف المسلمين في العالم العربي اليوم، وتدعيم الرؤية التي تؤكد أن لا أحد سيكسب بإقصاء الآخر، وأن منافع التعايش السلمي تفوق بمراحل ما يتوهم أنه من منافع الاحتراب/ التدافع الطائفي. ولا شك أن التعايش السلمي سيذيب كثيراً من الفوارق الطائفية لصالح الحقيقة الدينية/ التاريخية التي هي في كثير من الأحيان في منتصف المسافة بين المتطرفين من هؤلاء وهؤلاء. وذوبان هذه الفوارق سيعزز بدوره من منطق التعايش السلمي، وسيتفاعل ذلك جدلياً إلى أن يصل كما نأمل أو كما نحلم ! إلى مرحلة الخروج من عنق زجاجة القرون الوسطى التي تخنقنا منذ أكثر من ألف عام. 7 وحتى نمارس دورنا الإيجابي في كل النقاط الماضية، يجب أن نكف عن اتهام الآخر (الغرب خصوصاً) بالتأجيج للصراع الطائفي بيننا. لا بد أن نتهم أنفسنا وتراثنا وتاريخنا أولاً، قبل إلقاء اللوم على الآخرين؛ لأن صراعنا الطائفي موجود قبل الغرب، وبدون الغرب، وسيوجد إذا ما تركناه على هذا الصورة العبثية بعد الغرب وبدون الغرب. فإشكالياتنا هنا هي إشكاليات محض داخلية؛ حتى وإن أقام الغرب عليها بعض الرهانات السياسية، إلا أن هذه الرهانات تالية للواقع الطائفي المأساوي المتجذر في التاريخ، وليست تطويراً أو تضخيماً له، فضلاً عن خرافة أن يكون هذا الغرب هو من صنّاعه ابتداء.