نحن إذا لم ندعم خطاب التسامح، ونؤسس له، فمعنى ذلك أننا ندعم الخطاب المضاد، فنقر خطاب الكراهية والعداء، ونمنح شرعية النفي للجميع؛ ليمارس الأقوى (كما في الحالة الدكتاتورية )، والأكثر (كما في الحالة الديمقراطية )، كل ما يستطيعه من أنواع الاضطهاد والاستعباد والقهر والإذلال يشهد الواقع المصري - كعينة حاضرة تشهد على مثيلاتها - أن الوطن يغيب في ظل النزاعات الحزبية المتخفية خلف جدليات فكرية / إيديولوجية تدعو إلى الاختلاف والافتراق، وأن المواطنة المتسامية فوق الاختلاف تتلاشى بعد أن اختفى الوطن كهوية جامعة، تلتقي عليها - أو من المفترض أن تلتقي عليها - الأهداف العامة للمختلفين سياسيا أو دينيا، بحيث وصل الاختلاف في بعض البلدان العربية إلى مستوى الاحتراب، والنفي المتبادل، الذي هو - في النهاية - نفي للجميع من قِبَل الجميع؛ من أجل تصورات نظرية ضاق بها فضاء العقل الكسيح . ما تشهده مصر من احتراب أهلي (يبدأ بالكلام لينتهي ب...؟!) لا يعكس حقيقة التضاد الجدلي بقدر ما يعكس العقلية المذهبية المشبعة بالنفي الاستئصالي المتبادل؛ تشهده كثير من أقطار العالم العربي، هذا العالم الذي لا يزال يعيش عصر ما قبل التنوير، ما يعني أنه يعيش عصر ما قبل التسامح الحقيقي، التسامح الذي لا وجود له إلا من خلال مفهوم المواطنة المدنية، تلك المواطنة التي تؤسس للتسامح على أساس المساواة التامة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين المنتمين إلى واقع جغرافي / طبيعي، هو - بالضرورة محايد أو من المفترض أنه محايد - حياد الطبيعة الصماء . وبسبب اختلال هذا المفهوم المدني / الطبيعي للمواطنة في العالم العربي، أصبح هذا العالم بيئة طاردة، إلى درجة بات فيها حلم الهجرة يُراود الغني قبل الفقير، والصغير قبل الكبير، والعامي قبل المثقف، والمتعصب المنغلق الظلامي قبل المتسامح المنفتح المستنير ؛ تحت وطأة إحساس عام بتفشي روح الكراهية والعداء، كبديل عن روح المحبة والانتماء . وإذا ما أراد العرب الخروج من هذه الحالة، وبناء أوطانهم على أسس راسخة، بحيث تصبح واحات للنماء والرخاء والسلام الأهلي؛ فلابد من ترسيخ مفهوم التسامح كما هو في فلسفة التنوير. لا خيار، فإما التسامح على أساس الوجود المدني، وإما اشتعال فتيل العداوات التي لا يعرف أحد وجهتها، ولا إلى أين تنتهي، ولا من هم ضحاياها، حتى وإن كان وقودها - في الغالب - هم أولئك الأبرياء الذين يدفعون ثمن مغامرات المغامرين، وهوس الجاهلين، وأشواق المتسلطين . هناك إحساس عام بخطورة الأزمة . وكثير من البدائل يتم طرحها الآن من قِبَل المُتنازعين على فضاء الوعي وعلى فضاء الواقع . لكن، لا يتم طرح التسامح المدني كبديل لكل هذه البدائل التي أثبت الواقع والتاريخ فشلها. لا تزال البدائل ذات نفس ديني أو حزبي فئوي، يطرحها كل فريق من وجهة نظر مذهبه / طائفته / حزبه الإيديولوجي؛ ما يعني أنها - بالضرورة - تعبر عن مصلحة فريق أو طائفة؛ لا مصلحة كل الفرقاء. لا يزال الأمر مأساوياً في العالم العربي، فحتى حلوله التي يجترحها هي كارثية في علاقتها بالعصر. لا يزال هذا العالم يفكر وكأنه يعيش ما قبل القرن السابع عشر، لا يزال هذا العالم يسأل في البدهيات العقلية والمسلّمات الواقعية، ويريد أن يجرب المجرب ويكرر أخطاء التاريخ الفادحة بل القاتلة، مع أن إشكاليات اللاتسامح - بكل جدلياتها - قد تم طرحها من قبل، بحيث بات التسامح المدني مرتكز الاتفاق في أي بحث عن الوفاق. بعد رحلة طويلة وشاقة من البحث المعرفي / النقدي، الذي نهض به الفلاسفة العظام، منذ بداية عصر النهضة، مرورا بعصر التنوير، وإلى اليوم، وبعد كل معارك الجدل الشائك، وبعد كل جهود التنظير، تلك التي كانت تدور رحاها حول إشكالية التسامح بعلائقها المعرفية والواقعية، وصل الجميع إلى حقيقة واضحة، مؤداها: أنه لا بديل للتسامح إلا التسامح، وأن التسامح أصبح - بقوة قانون الواقع ؛ قبل قانون العقل ؛ بل وقبل قانون الأخلاق - هو الخيار الوحيد للحياة، وللحياة تحديدا. أما الموت، فلا تزال خِياراته مفتوحة للجميع، مفتوحة على كُلِّ صُور الانتحار التي يتصدّرها - وخاصة في عالمنا العربي / الإسلامي - خِيار الانتحار بالاحتراب الديني أو الطائفي، هذا الخيار الذي يبدو اليوم وكأنه بدأ ينتقل من عالم النظرية والتجريد الممتد على مساحات الجدل اللاهوتي العقيم، إلى مستوى التطبيق في الواقع المعاش. في سياق الخيارات الإيجابية، نحن أمام خيار مصيري لحياتنا، مُتمثلا في : إما التسامح، وإما التسامح . نؤكد ذلك؛ لأن الخيار الآخر الوحيد، هو الخيار المقابل: خيار اللاتسامح، خيار النفي المتبادل، خيار إلغاء الجميع للجميع، وهو خيار يقع خارج نطاق الحياة، ومن قبلُ، خارج منطق الحياة. نحن اليوم في العالمين: العربي والإسلامي، أمام خيار واضح، خيارٍ ليس غائما ولا ملتبسا؛ فيما يخص هذه المسألة (= التسامح) تحديداً فنحن إذا لم ندعم خطاب التسامح، ونؤسس له، فمعنى ذلك أننا ندعم الخطاب المضاد، فنقر خطاب الكراهية والعداء، ونمنح شرعية النفي للجميع؛ ليمارس الأقوى (كما في الحالة الدكتاتورية )، والأكثر (كما في الحالة الديمقراطية )، كل ما يستطيعه من أنواع الاضطهاد والاستعباد والقهر والإذلال. لا أظن الجماهير البريئة - على امتداد هذين العالمين: العربي والإسلامي ترضى بأن تكون وقود كراهية وعداء؛ إلا بعد أن تتم أدلجتها على يد سدنة الاحتراب الطائفي ودهاقنة الصراعات الحزبية، أولئك المتكسبين من كراهية الجميع للجميع. الجماهير الطبيعية (= غير المؤدلجة) تدرك - بتلقائية جمعية، وخاصة بعد تجاوزها عقلية الغزو والسلب - أن رفاهيتها مرهونة بمستوى ما يتحقق من سِلم اجتماعي يمنح الفرصة لتنامي الإنتاج، المؤدي - في الحالة السلمية الطبيعية - إلى الخير العام. لا يسري الوهن إلى هذا الإدراك الجماهيري التلقائي، إلا عندما يتم وضع الجماهير في سياق اعتقاد عنصري مُعادٍ للحياة، يُصوّر لها أن رفاهيتها ليست جزءاً من رفاهية الآخرين، بل هي رفاهية على حساب رفاهية الآخرين (وفق عقلية النهب والسلب، فسالب ومسلوب، وناهب ومنهوب. وبناء على هذا التصور، ليس ثمة عمل مشترك، تكون الشراكة فيه إضافة إيجابية لكل الأطراف، إذ - وفق هذا المنطق الاحترابي - لا يُضاف شيء إلى رصيد الذات إلا بسحبه من رصيد الآخر، والعكس صحيح؛ لأن الصراع هنا صراع على منتوج محدود، وليس على عملية إنتاج تنافسي، إنتاج يضيف إلى رأس المال، بحيث تتضافر - في سياق العملية التنافسية - معظم الإرادات - على نحو اضطراري، وغير مقصود- ؛ للتخفيف من حدة البؤس الإنساني على هذا الكوكب العليل. عندما يكره الإنسان أخاه الإنسان، فإنما يكره نفسه، وعندما يضطهده، فإنما يضطهد نفسه. اضطهاد الإنسان، أياً كان هذا الإنسان، هو اضطهاد للإنسانية ذاتها، أي الإنسانية التي يُشكّل المُضْطَهِد (= الفاعل)جزءاً لا يتجزأ منها، فمن ينتهك الحرمات الإنسانية، فإنما ينتهك حرماته بوصفه إنسانا، ينتهك ذاته في صورة انتهاك الآخرين. وكراهية الآخرين هي - في بعدها السيكولوجي الأعمق - ما هي إلا نتاج كراهية الذات واحتقارها وإدانتها؛ حتى ولو كانت تدعي = في سياق التنرجس المَرَضي = أنها خَيّرة، وأنها إيجابية، وأنها راضية بذاتها، وأنها من نسل خير أمة أخرجت للناس. إذا انتفى كل خيار غير خيار التسامح؛ فلابد من البحث عن كل ما من شأنه أن يعزز التسامح كخيار، وفي الوقت نفسه، لابد من البحث عن كل عوائق التسامح، والتي تكمن - غالبا - في صلب المقولات اللاهوتية التي تتأسس عليها الأديان والمذاهب، وتصبح عند الأتباع المُقلدين ليست مجرد مقولات عابرة، بل عقائد راسخة، بل عقائد يُراد لها أن تتجذر كأصل من أصول الإيمان في معظم الأحيان. لقد اعتقد جون ستيوارت مل أن التسامح يمتنع مع الاعتقاد بحقيقة مطلقة؛ لأن الاعتقاد بمثل هذه الحقيقة يفتح الباب على النزاعات اللاهوتية التي تؤسس رؤى الافتراق؛ لأن الجدل اللاهوتي سيسير في طريق تأكيد الحقائق المطلقة التي لا تقبل أنصاف القناعات، ومن ثم لا تقبل أنصاف الحلول. بينما الشراكة الاجتماعية، ذات المنحى التسامحي الذي ينبذ الاضطهاد، قائمة على أنصاف الحلول ضرورة، وعلى الاشتغال على المشتركات؛ بمستوى المشترك فيها؛ لا بمستوى ما عليه الخلاف. في اعتقادي أن الحقيقة المطلقة نوعان : حقيقة مطلقة على مستوى الاعتقاد بعوالم الغيب، والتي لا يتعدى أثرها حدودَ العوالم الداخلية للفرد (فالغيب فردي التصور حتما؛ لأن رسم معالمه يتم من خلال اللغة التي تُحيل إلى ما لم يتحدد مدلوله في الوعي سلفا عن طريق الحواس)، وحقيقة مطلقة من حيث هي قانون / تنظيم نافذ على الجميع في مستوى الفعل الاجتماعي أو السياسي. وبناء على هذا، فالحقيقة المطلقة من النوع الأول لا تمنع التسامح، ولا تفسد الشراكة الاجتماعية؛ لأنها لا تعمل في المجال الاجتماعي الذي هو ميدان التسامح (كما هو ميدان التعصب أيضا)، بينما الحقيقة المطلقة من النوع الثاني تقف - بلا شك - عقبة ضد كل رؤية تسامحية تحاول أن تجد طريقها إلى الواقع المُتعيّن؛ لأن من يعتقد أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، فسيعتقد - حتما - أنه يمتلك الحق المطلق، ومن ثم يمتلك الحق في التصدي لكل من يقف في طريق تمكين هذا الحق المطلق ليفعل في الواقع، وليكون فعلًا غير مقيد ولا محدود، أي بالمطلق أيضا. إشكالية الحقيقة المطلقة، أنها ليست حكراً على طرف واحد، بحيث يُسلّم لها جميع الأطراف بذلك، بل هي حقيقة مطلقة عند كل طرف، إذ كل طرف يدعيها، بل وكل طرف يعتقدها يقيناً لا يتطرّق إليه الشك بحال. وعندما تحضر هذه الحقائق المطلقة في السياق الاجتماعي المشترك، فلابد أن تتصادم؛ لأن المطلق لابد أن يكتسح كل المجال الذي أمامه (والذي يتضمن - بالضرورة - مجال عمل المطلقات الأخرى)؛ لأنه يرى نفسه مشروعا للحقيقة، مشروعا عابرا للزمان وللمكان. وإذا كان جون ستيوارت مل رأى أن الاعتقاد بالحقيقة المطلقة مانع من التسامح، دون أن يحدد مجال هذه الحقيقة بمستوى الفكر/ الفعل الاجتماعي، فإن جون لوك في (رسالة في التسامح) أكد مرارا أن التسامح يبدأ من الفصل بين مجال الاعتقاد الخالص الذي لا ضير من حقائقة المطلقة، وبين مجال التعامل المدني الذي يجب أن يتساوى فيه جميع الناس. جون لوك يرى أن التسامح هو أن لا يُحاكم الناس على أساس دينهم، بل يُعاملون مدنيا على أرضية يتساوى فيها الجميع بلا تمييز ولا تحيّز من أي نوع . ومن يقرأ كتابه التأسيسي (رسالة في التسامح) يرَ أنه يؤكد مرارا، ومن أول الكتاب إلى آخره، على ضرورة أن يبتعد رجال الدين عن سياسة الشأن العام؛ لأن دخولهم فيه (= الشأن العام: موضوع الفعل / التفكير السياسي) سيؤدي حتما إلى وجود تحيزات عصبوية في التنظيم الاجتماعي، تحيّزات لابد أن تكون لحساب طائفة أو مذهب، على حساب بقية الطوائف والمذاهب الأخرى. لقد رأى جون لوك في رسالته، أن من حق القائمين على تنظيم شؤون أي دين، أو أي مذهب، أو أية طائفة، أن يُخرِجوا منها من لا يعترف، أو لا يلتزم بأصول عقائدها أو بمبادئها الأساسية التي قامت عليها، ولكن بشرط أن تكون أرضية التعايش مدنية خالصة، بحيث تسمح بأن يتساوى الجميع تماما في كل الحقوق والواجبات. بمعنى ألا يترتب على الحرمان الديني / الروحي الذي يقوم به سدنة الدين أو المذهب، أي حرمان مدني من أي نوع، بل وألا يكون التصنيف الديني أو المذهبي توطئة أو تشريعا لممارسة الاضطهاد، أياً كان نوع هذا الاضطهاد، وأياً كانت درجته، حتى ولو كان متمثلا في بعض عبارات التنقص، أو إشارات التبخيس، أو ممارسات الازدراء . إن الاضطهاد الذي ينتج عن عدم التسامح مع الخلافات العقدية، لا يُؤزم المجتمع، ولا يشعل فتيل الاحتراب الداخلي فحسب، وإنما هو - أيضا - يصنع مجتمعا نفاقيا، مجتمعَ رُعبٍ يفتقد الحدود الدنيا من الشجاعة.. ومجتمع كهذا، لن يصبح بيئة خوف فحسب، وإنما سيصبح بيئة تخلف أيضا، فالمجتمع الذي يُقسر أفراده - أو بعضا منهم - على رُؤية محددة، بحيث يُضطهد من خالفها، لا يستطيع أن ينهض بنفسه؛ لأنه معاق على مستوى الرؤية، وعلى مستوى الإرادة أيضا . فمن جهة؛ لا شك أن (الرؤى) ستبقى حبيسة الصدور حتى تتآكل وتموت، ومن جهة أخرى؛ لا شك أن (الإرادة) ستجد نفسها مكبلة بالأغلال - حقيقة أو مجازا! لقد أصبح من بدهيات الرؤية السياسية المعاصرة أن الدولة المدنية (وهي الدولة الحقيقية بالمفهوم الحديث) هي دولة المساواة، ومن ثم، فهي دولة المواطنة (نسبة إلى الوطن = الأرض، وليس إلى أي هوية فكرية عابرة للجغرافيا) التي يتساوى فيها كلُّ أحدٍ مع كلِّ أحدٍ، وتحمي الدولة فيها كلَّ أحدٍ من كلِّ أحدٍ؛ دونما تمييز يُفتت هوية الأوطان. إن أي اعتداء على هذا الأصل المدني للتعايش المشترك، يعني اهتزاز مفهوم المواطنة من أساسه، ومن ثم اهتزاز مفهوم الوطن، إذ لا وطن بلا مواطنين متساوين بمجرد الانتماء إليه ككيان محدود بحدود الجغرافيا، وليس كفكرة أو كرؤية عابرة للقارات، رؤية تحاول أن تجمع أشتاتاً من أناس ونُظم، يستحيل أن يتأطروا في نظام واحد، نظام يكفل لهم المساواة الإنسانية التي هي أساس هوية الأوطان، تلك الهوية المرتبطة بمشروعية وجود الوطن، وجوده كوطن، وليس - فقط - كنظام.