من خلال المقاربة التي قمنا بها في المقالين السابقين للأزمة الطائفية، أصبح من الواضح أن المسألة الطائفية هي - في جوهرها - مسألة سياسية، كأشد وكأوضح ما تكون السياسة - رؤية وعملًا -. ولأنها كذلك؛ يعمد الطائفيون (وهذا ما نريد التأكيد عليه في هذا المقال؛ لأنه توطئة ضرورية لتفكيك الخطاب الطائفي، بغية التأسيس لخطاب متسامح) إلى تأويل، بل وتحوير كل مُفردات الدين، وكل أنشطة التدين؛ لتكون تأصيلا لمبدأ المفاصلة، ومن ثم لحالة الكراهية والعداء والاحتراب، سواء على مستوى الكلمات، أوعلى مستوى السلاح . إن إدخال هذه التصورات التأويلية الاستلحاقية التي كانت تَتشكّل على ضوء احتياجات الواقع، ولكن على يد رجل الدين، وعن وعيه وإرادته (أي في النهاية على ضوء الاحتياجات الواقعية لرجل الدين، لا لأتباع الدين)، كانت عملا سياسيا بواجهة معرفية، كانت تتموضع في سياق الخطاب وفي سياق الواقع، بوصفها ممارسة ضرورية لتحويل المبادئ الدينية الخالصة إلى مشاريع سياسية نفعية ذات جدوى مباشرة وملموسة على مستوى الواقع المعاش. كان لابد من هذا التأويل أو التحوير؛ لأن أصل المبادئ - دونما تأويل كهذا - لا يكفل للوُعّاظ ولا للدُّعاة ولا لرموز التدين الطامحين إلى القيام بأدوار سياسية (حتى ولو كانت أدوارا ثانوية، أو أدوارَ مُشاكسة فوضوية، المهم أن تُنفّس عن حالة غرور، وتُرضي الحاجة إلى البروز والنفوذ والتمتع بممارسة شيء من فتات السلطة!) أن يستقطبوا الجماهير التي عليها - لا على سواها - يجري الرهان . لا يستطيع الرمز الديني أن يحضر سياسياً؛ دونما إثارة لروح العداوة والبغضاء القائمة على قاعدة التكتلات الاجتماعية (حتى وإن بدت على صورة تكتلات دينية في صريح وجودها )، لايمكن أن يتمكن هذا الرمز من التحكم في بعض عناصر القوة الاجتماعية التي تستلزم ولو قيلا من جماهيرية؛ ما لم يصنع حالة صراع تستدعي الاصطفاف؛ ليكون - هو - في أول الصف مُدافِعا ومُهاجِما، ومن ثم - وبالضرورة العملية - يصبح قائدا ومهمينا يفرض رأيه بالقوة حتى على أولئك الذين لم يلتحقوا - طوعاً - بقطيع الأتباع . إن المبادئ الدينية المجردة (= البريئة)من الحمولة السياسية لا تصنع صراعاً، ومن ثم لا تصنع اصطفافا، بل تصنع إخاء وتآلفا واجتماعا. والتآلف المؤدي إلى الاجتماع والتآخي يُلغي الدور السياسي للرمز الديني، ويحصره في وظيفته الدينية الخالصة المتمثلة في الإرشاد الروحي (بعيدا عن أي نزعة تتطلع لضبط السلوك بالقوة ؛ لأن هذه وظيفة الدولة / السياسة)، بينما هو - في قرارة نفسه - يطمح إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، يطمح إلى المزاحمة السياسية في الشأن العام. لابد أن نعي الأمور كما هي عليه في الواقع حقيقة، وليس كما يُعلِنُ عنها أصحابها، أقصد أولئك المنتفعين من الغموض الذي يكتنفها، ومن الخلط في أوراق اللعبة السياسية المحايثة لها . فالفرز بين الديني والمدني (= السياسي) ضروري هنا؛ حتى تتضح مسارات العمل، وتتحدد الأدوار، وإلا فإن تداخل الأدوار لابد أن يُصيب حتى أشد الرؤوس نزاهة بالدُوار. إننا إذا وعينا المسألة على هذا النحو المتجرد من أوهام الدعاية الدينية الطائفية المُخادعة؛ استطعنا أن نجزم بأن مفتاح الأزمة الطائفية يكمن في فحص وفضح خطابات الكراهية داخل كل طائفة (والأفضل والأجدى أن يقوم به المفكرون المنتمون لذات الطائفة)، وعزلها عن أصل المعتقد الديني، مع إيضاح، بل وفضح، دور تُجار الدين المتسيّسين في ترسيخ مشاعر الكراهية الطائفية التي تخدمهم سياسيا، تلك التي أسسوا لها - عقدياً - في عقول الأتباع؛ بالإضافة والتأويل . قديما أكّد الفيلسوف العربي / الفارابي، أن من يُتاجر بالدين، فهو بلا دين . أي أن وجوده في السياق الديني يصبح وجودا براجماتيا، وجودا طارئا. فهو يدعي التدين؛ بينما مهمته الأساسية - إبان المتاجرة - هي محض دنيوية، بحيث تقع خارج هذا السياق الديني الذي يتماهى معه على مستوى الادعاء. لقد أدرك فلاسفة التنوير الأوروبي أن من العبث الدعوة إلى التسامح بين أطياف المتنوع الديني والاجتماعي؛ ما لم يخضع الخطاب الديني السائد للمساءلة، ما لم يتم تفكيك المنظومة الكهنوتية التي تتحكم في ثنايا الضمير، وفي أعماق الداخل الإنساني، كما تتحكم - على نحو مباشر وقسري - في خيارات السلوك العام أيضا. بمعنى أنهم أدركوا عبثية الدعوة العامة للتسامح؛ مع الإبقاء على الرؤى العنصرية المتخلفة التي يُشرْعنها ويُغذيها التصور الديني السائد آنذاك في أوروبا، والذي كان ينضح تطرفا وتعصبا وكراهية للانفتاح على الآخرين. لم ينخدع أولئك الفلاسفة / المفكرون بالشعارات الدعائية العامة التي يطرحها الخطاب الديني آنذاك، والتي يدّعي فيها أنه لا ذنب له في الكراهية المستشرية، وأنه لا يدعو إلا إلى التسامح والمحبة والسلام . لم ينخدعو بذلك؛ لأنه لا أحد كان يُقرّ - صراحة - بتعصبه وتطرفه وإسهامه في صناعة العداء المتبادل، إذ كُلُّ طوائف ومذاهب الديانة المسيحية كانت تُقدّم نفسها على أنها المعبرة - بصدق وبإخلاص - عن التجلي المسيحي الأول؛ حيث (التضحية الفدائية)في سبيل إنقاذ الناس / الإنسان، فكيف تنطوي على تصورات تتعمد نفي الإنسان ؟! لقد كانت كل طائفة من طوائف العالم المسيحي تدّعي أنها التعبير الصحيح عن دين المسيح (المُمْتلكة - احتكاراً - للعقيدة النقية الصافية )، وأنها - تبعا لذلك - داعية السلام المسيحي، وذاكرة الخَيْريّة الأولى، بينما الآخرون، كل الآخرين بلا استثناء، عُنصريون، مُتعصبون، ظالمون، معتدون، متعطشون للدماء . ولأنهم هكذا - وفق هذا الزعم - فهم يستحقون أن يعاملوا بعنصرية وبظلم، وأن تُستباح دماؤهم بلا تردد وبلا رحمة، بل باشتهاء سادي ؛ لأنهم شرٌّ محض لابد أن تتطهر منه الأرض بأمر السماء !. للأسف، هذه الحال تشبه تماماً ما هو سائد اليوم في العالم الإسلامي. فكل طوائف ومذاهب وفرق المسلمين، وكل التيارات والأحزاب المتنوعة داخل هذه الطوائف والمذاهب والفرق، ترفع شعارات التسامح دون التوافر على أدنى مستويات التطبيق، وتُبالغ في الإعلان عن شغفها بمبادئ العدالة الاجتماعية، وتؤكد - في كل مناسبة - أن الإسلام (وتقصد إسلامها الخاص، الإسلام كما تفهمه وتطبقه، أو حتى ترغب / تحلم في أن تفهمه وتطبقه) هو دين التسامح والرحمة، وأنه ضمانة السلام . بل وتدعي أشد الفرق غلواً، أشدها تعصبا وتوحشا، أشدها تنظيرا لكراهية الآخر، أنها (أرحم الخلق بالخلق)، في مفارقة كوميدية صارخة، تستدعي الضحك؛ بقدر ما تبعث على البكاء! لا شك أن الإسلام هو دين الرحمة والتسامح والسلام، بل ودين المحبة والجمال. هذه حقيقة واضحة لمن يتفحص النصوص الأولى، النصوص القرآنية، وكذلك النصوص النبوية، الثابتة بالتواتر الذي يصل تواتره إلى مستوى أن يضمن يقينية الثبوت قطعاً . لكن، تسامح الإسلام المؤكد؛ دونما حاجة إلى تأكيد، والذي ليس محل خلاف في سياق الداخل الإسلامي، لا يعني تسامح مَنْ يَدّعي ويزعم أنه المُمَثّل الشرعي والوحيد للإسلام (وللأسف، كل فرقة وكل طائفة وكل مذهب، بل وكل منطقة، تدعي أنها " الفرقة الناجية "، ومن ثم تدعي أنها الممثل الوحيد، والشرعي للإسلام)، بل العكس يكاد أن يكون هو واقع الحال؛ لأن من يتحلى بمثل هذا الزعم وبمثل هذا الادعاء العريض الذي يحتكر الشرعية، لا يستطيع أن يكومن متسامحاً مع من هم في نظره ممثلون غير شرعيين للإسلام ! . لقد رأينا كيف أن كل أطياف المتنوع الإسلامي تدّعي أنها تمثل الإسلام، الذي هو دين المحبة والسلام؛ اتفاقاً بين كل هذه الأطياف. حتى أولئك الذين سقطت منهم الفلتات تلو الفلتات من على أطراف ألسنتهم، بكل ما فيها من توصيف زعيم الإرهاب العالمي (= ابن لادن) ب(الشيخ)، وب(من له سابقة في الجهاد) والزرقاوي ب(المقاوم / المجاهد)، وطالبان ب(الدولة الوحيدة التي تطبق الإسلام)، أقول : حتى هؤلاء زعموا أنهم ليسوا متطرفين، ولا طائفيين، ولا عُنصريين، ولا كارهين للآخر، بل مجرد مسلمين متسامحين، أبرياء في البداية وفي النهاية، لا ذنب لهم - كما يزعمون - إلا الدفاع عن الإسلام، أو محبة من يُدافع عن الإسلام (وطبعا يقصدون بالمدافع عن الإسلام زعماء الإرهاب كابن لادن والظواهري والزرقاوي وحسن نصرالله ..إلخ القائمة البيضاء!). مجرد الادعاء لا يعني التحقق الادعاءات مفتوحة، وبالمجان، كل يدّعي ما يَشاء ؛ ما دام الامتحان لا يتجاوز حدود الكلام . رفع الشعار الجميل المتمثل في أن الإسلام دين الرحمة والتسامح والمحبة، ثم احتكار تمثيله، وادعاء التطابق التام مع أصله، يعني - من طرائق ضمنية - أن المُدّعي يزعم لنفسه أنه متسامح وراحم وممتلئ بمشاعر المحبة والإخاء، حتى ولو كان من مؤيدي تنظيم القاعدة، أو مِن أولئك الذين يفرحون بالتفجيرات الإرهابية التي تطال الأبرياء، أو من الذين يُشرعنونها بوصفها نضالا ضد نفوذ الاستعمار الجلي أو الخفي (وفق تصنيفهم )، أو ضد قوى الاحتلال . ولإنهاء الأزمة الطائفية أو التخفيف من حِدّتها؛ لابد من فهمها / تشخيصها - بأقصى ما يمكن - ابتداء . لابد من نقد الخطاب الديني لكل الطوائف؛ قبل البداية في طرح رُؤى التعايش والإخاء . لابد من إدانة واضحة ومحددة وصريحة، وبإجماع من الرموز الاعتبارية، لكل ما تنطوي عليه المنظومات التقليدية من أدبيات تحث على الكراهية، وتجعل من مجرد الاختلاف الطائفي مبررا للعداء . إن أيَّ خطأ مقصود أو غير مقصود في مشوار التَّبّصُّر بهذه المسألة، وأي انسياق وراء إغراءات اللعبة القذرة، وأي مراوغة أو تأجيل؛ مهما كانت الأعذار والمبررات، بل وأي تراخٍ أو تغاضٍ، لا يزيد المسألة إلا تعقيدا، وسيجعل المُفكر، صاحب الهم الإنساني، مُسهماً - من حيث يشعر أو لا يشعر - في تلغيم الحلول وتعطيلها، بدل أن يسهم في اجتراحها على ما يقتضيه الشرط الإنساني العام. عندما يرفع المتطرف، أو الطائفي المتعصب، أو التقليدي الكاره لكل الآخرين المختلفين معه، شعار أنه يُمثّل الإسلام (والإسلام متسامح، ومن ثم، فهو متسامح وفق هذه الدعوى)، لابد أن نواجهه بحقيقة معتقده، بحقيقة أن الإسلام الذي تصوّره ؛ فاعتقده وتبنّاه، ليس هو الإسلام المحمدي، بل هو الإسلام الطائفي المتعصب الذي صنعه له سماسرة المذهب، وأنه - بتعصبه وتطرفه - مجرد ضحية لمسيرة طويلة من الخداع. لابد أن نواجه الطائفي المتطرف بحقيقة أن إسلامه الذي يتمثله هو إسلام ضيّق جدا، وخاص جدا، وسلبي جدا. من الضروري أن يعي الطائفي الجماهيري، أي التابع الذي يَجتَرُّ مقولات رموز التطرف الطائفي، أولئك الذين يستغفلونه ويستغلون شعلة الحماس الديني المتقد بين جنبيه، أن إسلامه الذي يحارب به - وله - على المستوى الطائفي، ليس هو الإسلام؛ لأن ما يتمثله، ما يتطرف به وله، هو الإسلام الخاص الذي بناه له كهنوته المتعصب، وأصبح لايفهم الإسلام إلا من خلاله، أي من خلال كونه عصبية مُفاصلة وصِراع . هذا الطائفي المتطرف؛ دون أن يعي أنه متطرف، لابد أن نصدمه بحقيقة أن الإسلام بهذه الصورة المغلوطة ليس إسلاما متسامحا؛ مهما قيل ويقال من جميل الكلام . لابد أن نفتح عينيه (= الطائفي التابع المخدوع، وليس الداعية / الرمز الذي يعي أبعاد الخديعة، بل هو الذي يحيك خيوطها ويستثمرها في النهاية، وكُلٌ إلى حيث تنتهي مطامعه وقدراته) قسرا على الحقيقة المرعبة المتمثلة في أن الإسلام الذي يعتقده في ضميره، ويؤمن به من صميم قلبه، والذي لا يراه مكتملا إلا بكراهية الآخر، ونبذ الآخر، وإقصاء الآخر، ليس إسلاما متسامحا، ليس جمالًا بل قبح ؛ لأنه - بكل بساطة - ليس هو الإسلام . أُقلّبُ هذه الحقيقة وأُكررها من عدة وجوه، بعدد المرايا التي يمكن أن تُعرّيها؛ لأن حجم الخداع كبير، والغارقون في طوفان هذا الخداع لا يعون أبعاد ما يُقدّمون أرواحهم رخيصة من أجله . فليس حل المسألة الطائفية بالسهولة التي يتصورها بها أولئك الطيبون الحالمون بمجتمع جديد مُتسالم، بمجتمع يتجاوز الإشكاليات الطائفية، يتجاوزها بمجرد أن يُدين زعماءُ الطوائف الطائفيةَ بشيء من اللعب السياسي على أطراف الكلام الديني !.