المهداوي: المرأة تكسب الرهان وتسيطر بروحها وجمالها على الشاعر خفت صوت الشعر العاطفي وتلاشى بريقه وأضحت مكانته تتقهقر في دولة الشعر وتراجع حضوره في الصحف وإذاعته بين الناس، بعد أن كان هذا الفن يستلهم عبيره من المرأة فهي ربة هذا الشعر والمحرض الأول لنظمه فكم من مرأة أوحت بدائع القوافي وكم من شاعر خضب يراعه في دنياها فانهالت عليه القوافي، فكانت تعد مصدراً هاماً للشاعر حيث ينهل منها أعذب القصيد واستشف من عينيها أجمل الصور، فهي التي تقدح زناد الشعر عند أصحاب القوافي، واليوم ومع الظروف التي يعيشها الشاعر العربي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وارت هذا الفن من الشعر العربي فما نجد منه سوى جذاذات في الصحف ومقطعات قصيرة بعد أن حل مكانه شعر المديح المصطنع والرثاء الغث وألفيت هذا الشعر متصدراً الصحف والمنابر، فماذا حدث لفن الشعر الرومانسي والعاطفي، ألم يقل المتنبي: إذا كان مدحٌ فالنسيبُ المقدَّمُ أكُل فصيحٍ قال شعراً متيمُ إذاً فالنسيب يأتي قبل المديح وربما يقترح التشبيب حتى قال أحد الشعراء: لمدحك أخرت النسيب تهيباً وعندهم أن النسيب يقدمُ الحربي: المرأة ركن أساس في بناء القصيدة لاسيما ما يتعلق بالمشاعر والأحاسيس وهنا كوكبة من أبرز شعراء هذا الفن ممن صالوا وجالوا في هذه الحلبة وقدموا روائع الشعر العاطفي ونظموا في الغزل أبدع القوافي سألتهم عن غياب هذه القصيدة الفاتنة أنى هي؟ فكانت هذه الإجابات: في مستهل هذا الموضوع يتحدث الشاعر الدكتور عبدالإله محمد جدع فهو قد خص المرأة أكثر من ديوان ناهيك عن تجربته الطويلة فقال: مازالت التفسيرات حول منابع الإلهام في إبداع الشعراء وماهيتها محفوفة بالكثير من الغموض ومحل العديد من الآراء المتباينة..، وحين حضور الصورة الملهمة في فؤاد الشاعر - والتي هي عبارة عن خليط ما بين الواقع ونفحات من الخيال العاطفي أو الوجداني- تولد القصيدة الشعرية من مخاض ( التجربة الشعرية / العملية الإبداعية )..، والمرأة هي سيدة البدايات الشعرية منذ الأزل.، إذ يتصدّر التشبيب أو النسيب بها وعنها أبيات أي قصيدة شعرية في مقدمة طللية غزلية..بل إن الشاعر عنترة يذكر المرأة وهو في خضّم معركة حامية الوطيس ومبارزة تخضّب سيوفها الدماء.. (ولقد ذكرتك والرماح نواهل منى.. وبيض الهند تقطر من دمي) وتتربع المرأة على عرش خيال الشعراء وقصائدهم مهما لاقى شاعر الغزل والنسيب من انتقادات الإغراق في الذاتية والانغلاق على النفس. فالمرأة- في تصوّري- هي شعلة الإثارة للإلهام.. ونبض الروح للشاعر والمبدع.. وهي في أعماق وجدان الفنان وإحساسه.. يراها أينما اتجّه..كما قلت في شعري: (كأني أراك على كل وجه فكلّ الوجوه أمامي..أنت) وهي في أوراق الشاعر وبين سطوره ونظمت في هذا: حتى الكتاب أراك بين سطوره وإذا كتبت.. فأنت في أوراقي ولا يخشى الشاعر أحداً حين يعلن عن امرأته بكل الزهوّ والفخر إذ قلت في شعري: (سأقول للدنيا ولست بعابئ إني بقربك.. أسعد العشّاق) والمرأة أمّ الشاعر الذي يقطر شعره دما بفقدانها وقد قلت في رثائي لأمّي رحمها الله أمّاه بعدك من سيسمع شكوتي وإذا مرضت فمن يداه سرير أمّاه بعدك من سيمسح دمعتي من حادثات ليلهن هجير؟ ويواصل الشاعر جدع طرحه حول هذه الرؤية: وكما يستطيع الشاعر أن يرفع المرأة فوق هام سحاب دنياه، ويلبسها تاج قصائده وإبداعه، حين صفاء وحب، يمكن أن يهوي بها إلى السفح في زحام الألم والغدر وأبياتي في هذا الوصف تقول: أحرقت رسمك والأوراق والكتبا وذكريات الهوى مزّقتها إربا أسائل النفس في شك يؤرقني هل أنت من كنت في دنياي.. واعجبا فالمرأة الأمس واليوم وغداً ستبقى هي وقود اشتعال الإبداع عند الشاعر، ودرّة إلهامه مهما تغّيرت الأيام والظروف وتطوّرت وسائل الاتصال والتواصل في عالم الإعلام الجديد وماديات العصر..حتى أولئك الذين ينتقدون تناول الغزل في الشعر ويتهمون الشعراء بالغياب عن معاناة الأمة والإنسان والشأن العام هم يفصلون ما بين حرّية الإحساس والإبداع وما بين رسالة الضمير وصوت الإنسانية وليس ثمة فاصل مرئي بينهما فالعلاقة متداخلة، ولذلك كان الشاعر القديم يبتدئ قصيدته بالغزل والوقوف على الإطلال والتغنيّ بها توطئة وتهيئة للمتلقي قبل طرح معاناته ومعاناة قبيلته أو تعبئة بني جلدته ضد آخرين أو من أجل القتال أو حتى في غمار الحروب. فهو يخفّف وطأة معاناته وظروف ألمه بجرعات حب وغزل عفيف يلبسه ثوب القصيدة حين تحكي عن الآلام والمواقف وليس ثمة عيب في ذلك. يا أخي ليس ثمة غضاضة البتّة في أن تتصدر المرأة قصائد الشاعر وتشعل إبداعه فهي مصدر الإلهام والراحة في خضّم تعب الحياة ولا يتعارض ذلك أبداً مع حضوره في شأن مجتمعه وأمتّه فما زالت المرأة وسوف تظّل محور التجربة الشعرية خاصة والإبداع على وجه الإطلاق. عبدالإله محمد جدع أما الشاعر الشريف علي بن يوسف المهداوي فيرى أن المرأة هي المرأة في كل العصور، والشعر عاطفة وقد تكون طغت عليه جوانب مادية في الحياة وغيرت بعض المفاهيم التي تسربت نحو العواطف، إلا أن الفطرة السليمة هي التي تجعل المرأة في الشعر مطلبا وهو مطلب سام، وقد كان العرب إذا تغزل الرجل بإحدى نساء القبيلة يحرموه ولا يزوجوه منها، ومن ذلك نرى أن المرأة هي التي تكسب الرهان مهما شغلت الشاعر المشاغل المادية، فهي تسيطر بروحها وجمالها وجاذبيتها على الشاعر، وهي ذخائر ما يفتق الشاعر من مشاعر، ونحن العرب من قيمنا أن نظهر المرأة مطلوبة وليست طالبة ولا استثنى في هذا النهج سوى الشاعر الأموي عمر بن أبي ربيعة، فالمرأة دائماً تأخذ صور الكرامة والتمنع رغم ما تتمتع به من إثارة، والشاعر الأصيل يحرص على كرامة المرأة وشرفها مهما تغزل وقال فيها لا يكون صادقاً 100% إنما هي أماني وأصدق الشعر أكذبه. الشاعر حسن محمد الزهراني أودع كثيراً من شعره الرومانسي والعاطفي في أعماله الشعرية المتعددة وله باع طويل مع هذا الفن، يقول الزهراني: كيف تهطل الأمطار دون سحابة كيف يفوح العبير دون وردة كيف يشدو الشاعر دون امرأة * مازلتِ ملهمتي فكل قصائدي * من وجنتيك عبيرها ينداح * إن الملهم الحقيقي للشاعر هي المرأة مهما تغيرت مستجدات ومعطيات الحياة وظروفها ومؤثراتها وتعاظمت المآسي وقست الخطوب.. إنها ماكثة في كل تفاصيل مشاعرة لأنها: المودة والرحمة والحياة والأمل والغناء والنحيب المعاناة والأسى والحرمان واليأس.. لقد كانت ومازالت وستبقى المرأة المحرك الأهم لمشاعر الشعراء * هن من جرع الملوك المنايا * هن من الهبن لوعة الشعراء * لا اتصور الشعر دون امرأة تتسلل عبر المعاني والصور والأخيلة: حقيقة ومجازاً واقعاً وخيالاً أماً أختاً حبيبةً مظلومةً ظالمة * عيناك شعري وأنغامي وأفراحي * عيناك سحري وإلهامي وأقداحي * * عيناك نهران من حبٍ ومن أمل * عيناك في ظلمة الأيام مصباحي * ناجي حرابة ومن الأحساء يأتي الشاعر ناجي حرابة الذي طالما غرد للمرأة التي أوحت له جملة من القوافي وقد قال بهذا الخصوص: بستان الشعر ترويه ينابيع شتى إلا أن الأنثى بتجلياتها تظل أعذب وأروى ينبوع، وليس أدل على ذلك من أن يوقف شعراء كثر كلَّ قصائدهم في مناجاتها والتغزل بمفاتنها واستجداء همسها، بدءاً بجميل بثينة، وليس انتهاء بنزار، إن حجم الشعر الذي أوحى به الحب لقلوب الشعراء هاتفا باسمً الأنوثة يشكل ربما النصيب الأوفر في ديوان العرب، إلا أن عصرنا الحديث مُنيَ بالتلوث والأوبئة الروحية التي أصابت الشعر بالتصحر العاطفي، أو على أقل تقدير بالتسطيح العاطفي، الأمر الذي أنتج لنا غير قليل من الشعر الوجداني الساذج والمتخبط، والمكرور، فكم نحنُّ وسط هذا الركام إلى قول الشاعر: يذكرني طلوع الشمس ليلى وأذكرها لكل غروب شمسِ وقول الآخر: وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض العصفور بلله القطرُ إلا أن من الإجحاف أيضا أن ننفي وجود المرايا الشعرية الصافية التي عكست عمق الوجود الأنثوي في وجدان الشعر والشعراء، والتي استدعت رموز الأنوثة الخالدة فينوس وشهرزاد وليلى وغيرهن، لتستلهم منها، ولتلهم الدنيا ولتزيد بقعة الإخضرار في أرواحنا، وهالة النور في عيوننا. محمد أحمد المشاط أما الشاعر محمد أحمد المشاط فقد حاور المرأة في كثير من قصائده ونظم لها أعذب القوافي وهو من أبرز الشعراء في هذا الباب وقال: الشاعر طائر صدّاح والإلهام جناحه. فإذا قُصّ جناحه بقي الطائر على الأرض يلتقط الحَبّ والبذور. صحيح أنه يغني ولكنه لا يحلّق في الفضاء ولا في التطريب. وأعلى درجات الإلهام المرأة. فهي تشغل أكبر مساحة في وجدانه وعاطفته. وليس من عجب. فالمرأة تغذي كل الجوانب العاطفية والإنسانية في البشر. فكيف إذن بالشاعر؟ إنها المعين الذي يروي عطشه ويغذي عاطفته ويرتقي به إلى الأبعاد العليا من الرقة والشعور والتعبير. والمرأة ليست الحب وحده. بل هي شتى العواطف الإنسانية. البريئة منها والمعقدة. الملتهبة والفاترة. المحرّضة والمسالمة. فمن عواطف الأمومة الحانية إلى عواطف العشق الملتهبة. ومن عواطف الجفاء والهجر والخصام إلى عواطف الوئام والود والصفاء. ومن التحريض على التمسك بالحياة إلى التنازل عن المكتسبات والتسليم بالهزيمة والخذلان. كل تلك العواطف معينها المرأة في شتى صورها ومزاجاتها ورضاها وسخطها. إحدى انعكاساتها على نصي الشعري هذه الأبيات من قصيدة "مجسّ من مقام الحجاز". لام في الحبِّ، ما سمعتُ كلامَهْ من رأى عاشقاً يُطيقُ الملامَةْ كلُّ شيءٍ في الحب سحرٌ ويغري أيَّ صبًّ لكي يعُبَّ مُدامَهْ أسرتْ دُرةُ الخليجِ شراعي وصواريهِ خبّرتها هُيامَهْ فتنتني عيونها النجلُ، والشَّعرُ حريراً، والثغرُ، والإبتسامَةْ وورودُ الخدودِ، والقدُّ ميّاساً، وعذبُ اللّمَى، وحسنُ الوسامَةْ وهنا الشاعر المعروف أحمد الحربي يغدق على المرأة جل شعره وينظم لها أعبق عقود الفل وهنا يقول في هذا الموضوع: المرأة هي المرأة منذ أن خلقها الله، والشعراء لا يمكن لهم الاستغناء عن وجودها في حياتهم الأدبية فهي كانت ومازلت المحرض الأول للعاطفة، وهي التي تشعل في الشاعر اللحظة المشتهاة التي يفجر عندها لغته شعرا ونثرا. قلت ذات شعر في قصيدة بعنوان قادم كلي إليك: قادم كلي.. إليك.. آه.. يا نوّارة القلب تعالي.. فجري صمتي الدفين !! واحضني فيّ البقايا.. ها أنا أكشف نفسي قبل أن تفضحني فيك المرايا وفي مقطع آخر قلت: أنت يا رحلة آمالي الجديدةْ.. أنت يا أحلى خريدة ْ.. بعثري فيّ القصيدة ْ.. رتبي أبياتها.. أوزانها الجذلى.. وغني في متاهاتي البعيدةْ.!! فعندما أطلب منها أن تبعثر في داخلي القصيدة / فهذا دليل على أنها المحرض لهذه القصيدة، وعندما أطلبها أن ترتب أبياتها وأوزانها، لأنني مدرك صدق فعلها.. الشعر عالم قائم بذاته، لكن المرأة ركن أساس في بناء أبياته، خصوصا ما يتعلق بالمشاعر والأحاسيس، والكلام يطول حول هذه النقطة، ولا أعرف كم المساحة المخصصة لي، ولكنني سأكتفي بهذين البيتين كدليل على حاجة الشاعر للأنثى ولن يستغني عنها أبدا: مُدّي يديكِ..أنا مددتُ يديّا عارٌ إذا بقي اللقاء غَبيَّا مُدّي يديكِ.. تعانقتْ كلماتُنا وتساقطت شهدا على شفتيّا