مدخل: في طبعة أنيقة فاخرة صدر ديوان (أنا من خيال) للشاعرة أحلام الحميد عن دار المفردات بالرياض عام 2008م وهو المولود الشعري الأول لأحلام جاء في خمسة وثلاثين نصاً شعرياً وشغلت النصوص سبع صفحات ومئة من القطع المتوسط. وتذكر الشاعرة في مقدمة الديوان أنها كتبت هذه القصائد على مدى عشر سنوات والعمر الزمني لقصائد الديوان يكشف عن تطور في الشاعرية واللغة وتفاوت في مستواها الفني. وقد صدرت الشاعرة ديوانها بإهداء بالغ الوفاء لوالديها وزوجها وإلى كل نبض فريد ألهمها حرفاً.. وهذا الإهداء ينبثق من عالم نصوصها الذي يتمحور حول ذاتها والآخر في مرآتها.. ضم الديوان خمسة وثلاثين نصاً شعرياً عدا تسعة نصوص قصيرة جداً تعمدت الشاعرة إهمال فهرستها ضمن قائمة فهرس القصائد إذ لم تردها أن تكون نصوصاً قائمة بذاتها، ونثرتها في مواضع مختلفة من الديوان تهدف منها تهيئة المتلقي لعالم النص قبل الولوج فيه وبتأملها نلحظ صلة نفسية حميمة بينها وبين النص الذي تسبقه فعلى سبيل المثال تقول في بيتين معنونين ب(دفئي القلب): دفئي القلب حناناً دفئية وظلاماً في الحنايا أشعليه واشتياقاً كامنا في مهجتي من زمان غابر فلتوقديه هذه الدفقة الشعورية الحانية عن الأم تأتي ممهدة لنص تال له مباشرة هو عن الأم بعنوان (مدى يديك) فالصلة الشعورية بينهما واحدة، واتكاء على ذاكرة المتلقي في شهرة البيتين إذ هما مطلع لنشيد شهير اقتبس منشؤه نبض أحلام وأكمل بيتيها الشهيرين بنشيد في الأم، اتكاء على هذه الشهرة ينهض البيتين بوظيفة الإلماح لمعنى النص الأمومي قبل ولوج عالمه الداخلي. وعلى هذا النحو يمكننا التوقف عند الروابط الشعورية بين هذه الأبيات الإلماحية والنصوص التالية لها، ولعل من أجملها أبيات (خُلقت مثل الأمواج) السابقة لنص (إني أنثى). جماليات العنوان أنا من خيال جامل ولا تقل الحقيقة قد تعبت من الحقيقة من قال ان الصدق في كل الأمور هو الطريقة وكعادة معظم الشعراء اقتبست الشاعرة عنوان الديوان من إحدى قصائده التي تحمل العنوان ذاته، واستثمرت بلاغة ضمير المتكلم (أنا) في دلالته النحوية على الفردية ليعبر عن الحضور الذات وتسيدها، وهذه الأنا الصريحة تتناسل في بنى لغوية عدة أتت في ياء المتكلم متصلة بالأسماء والأفعال والحروف، وأخرى مستترة في الأفعال والنسيج اللغوي للقصائد وعنواناتها يكشف عن حضور الأنا الأمر الذي يعزز ملمح الذات مفتاحاً لولوج الديوان. فالعنوان بطاقة تعريف تكشف عن الهوية الشعرية الحالمة لصاحبته، ولنتأمل حضور الأنا في عناوين هذه القصائد: (إني أنثى)، (آه من أوجاع وجدي)، (يا أول طفل أعشقه)، (وداعاً طفولتي)، (أنا متعب)، (سر يا مدادي)، (تغيبين عني). والمعجم الشعري أيضاً دلالة ولفظاً يستحضر هذه الأنا الوادعة في خيالها بوضوح. المضامين: تكشف المضامين عن نزعة عاطفية رقيقة حالمة تستبد بقصائد الديوان، فذات الشاعرة وتجاربها الآنية الخاصة هي محور اهتمامها، ويمكن تصنيف القصائد إلى فضائين دلاليين: الأول: الذات في صلتها بالآخر. الثاني: فضاء دلالي تتحرك فيه نفثات شعرية متنوعة من وحي تجارب ذاتية واستجابة لمواقف حياتية متنوعة، كالحنين للطفولة، أو تأمل حياة وردة في الثلج أو هم ذاتي أو بوح بخاطر ألم بها. والقصائد في كلا الفضائين أسيرة النزعة الذاتية. وعن الفضاء الأول سيكون الحديث هنا لكونه الأغزر، وفيه تتجلى الذات مع الآخر أو الآخر في مرآة الذات.. والآخر هنا هو كيان قريب جداً منها يحيا في وجدان الشاعرة بصورة يبدو فيها نصفها الثاني لا تنفصل عنه ولا تعيش أو ترى نفسها بدونه. والأسرة هي الآخر الذي تعيش به ومعه وله ممثلا في الزوج والأب والأم والأبناء.. وفي علاقة إنسانية مهذبة جداً تحتل الصداقة أهمية كبيرة في عالم الشاعرة نقرأ فيها صورة الصديقة الأخت كيانا آخر ترتبط به وتوليه كبير العناية والاهتمام.. وهذا الفضاء الدلالي يشكل قيمة كبيرة لدى أحلام، فثمة انغلاق مقروء بوضوح في الديوان فحركة العاطفة تدور حول الذات في علاقتها بهذا الآخر. والتعبير عن العلاقة الزوجية يأتي في المقام الأول برصيد عاطفي ضخم على مستوى الديوان برمته، وتتجلى في أسمى صورة نقرأ فيها معنى (مودة ورحمة) بلغة شعرية عذبة.. والجديد الذي يقوله الديوان هنا هو التعبير عن العلاقة الزوجية الذي يوشك أن يكون متواريا أو شحيحا في شعر المرأة السعودية إذ لا يتجاوز في الغالب قصيدة أو قصيدتين بين دفتي ديوان.. ولدى أحلام يشكل موضوعا ومحورا من محاور التجربة الشعرية أو هو جوهر التجربة الشعرية وما عداه يبدو عارضا.. فالقصائد الغزلية يتجاذبها تصنيفان عند القراءة لأول وهلة: هل هي شعر غزلي في المحبوب؟ أم شعر أسري في الزوج؟ والجميل لدى أحلام هو تطابق الصورتين فشعرها غزل في الزوج المحبوب!! ويرجح هذا أننا لا نجد خطاباً مشتعلاً للحبيب ولا خطاباً تقليدياً للزوج بل خطاباً بين بين ويعبر عنه إما بضمير الغائب كقولها: (مادرى عن لهفي)، و(يغضب مني)، أو بضمير المخاطب الأثير في أسلوبها. فالحديث يكون عنه وإليه في كل النصوص بتغييب اسمه أو قرابته والتلطف في مناداته برفيقي وخلي وأليفي وملهمي ورفيق الدرب وحياتي أو مناداته مجازياً بمليك الحنايا وما أشبهها. واستطاعت أن توظف قالب القصيدة الغزلية المألوف بما فيه من شوق وحنين وعتاب ولهفة وهجر وغضب وصفح ولوعة في التعبير عن العلاقة الزوجية، وأشبعت خيالها العاطفي في العزف على وتر الحب النغم الأثير لدى الشعراء بصدق فني وواقعي في الوقت نفسه وهذا وسم القصائد بسمات: أولاها: التنوع في إطار تجربة واحدة، فالذبذبات الشعورية مهما تنوعت من عتاب وشوق ومكابرة وغضب وحب وتحد تلتقي في مجرى واحد لأن منبعها تجربة حياتية صادقة لا يفسح لها المجال لاستحثاث الخيال في أنماط غزلية متعددة التجارب ومتنوعة المشارب لوحدة المحبوب وقدسية العلاقة معه فالتنوع هنا تباين في الدرجة لا النوع. وثانيها: الاتزان العاطفي، فثورة الحب وعنفوانه ولهيبه وجموحه وجنونه تكاد تمّحي. في الديوان فالعاطفة فيه حية رقيقة حالمة مغلفة برهافة الحس ودقة الشعور والحب المطلق والعطاء فيه وتشعرنا باستقرار نفسي وهدوء داخلي ومنها علت نبرة بعض القصائد لا تزعزع نغمة الأمن المستبدة بالمجموعة بل هي دعوة لاستباب الأمن الذي ألفته فتعلو النغمة خوفا من فقده وطمعا في ظله. وثالثها: الاحتواء العاطفي والامتلاء من الحب من طرفيه المحب والمحبوب فالقصائد تعكس شعوراً متبادلاً من طرفي التجربة فنقرؤه كما نقرؤها، وقد عبرت على لسانه مستعيرة نبضه في ثلاثة نصوص هي: (ومم أخاف) و(أتعاقبين) و(ءأكاد أجنّ من حبك). وهذا الفضاء تقرأ فيه الذات في علاقتها مع الآخر وهما يشكلان معا موضوعا شعرياً في الديوان. التشكيل الفني: يتشكل المعجم الشعري للديوان من لغة عفوية رقيقة في ألفاظها، ولا نلمح ثراء في المخزون اللفظي من حيث الكم، إذ اشتقت الشاعرة معجماً خاصاً لها تنهل منه في كل النصوص، والمعجم الدلالي لها ذو مستويين عاطفيين: 1- مفردات من حقل الحب: كالشوق والحنين والسحر والنبض والمشاعر والهوى والوجد والدفء والعشق والولع والجوى والخفوق. 2- مفردات من حقل الألم: كالحزن والدموع والجرح والعتب والهم والغم والغضب والوجع. والمستوى الأول هو الأكثر توافراً في لغتها إذ الذات الوادعة المحبة هي النغمة الأثيرة لديها. ويلفت الانتباه شغفها بالحقل الناري وتستدعيه كثيراً للتعبير عن الألم أو الشوق نحو: (بركان، حريق لهيب، عذاب، جمر، نار، اشتعال)، وتكتسب الكلمة دلالتها على الألم أو الحب والشوق من السياق الذي توضع فيه، وعلى أية حال القيمة الجمالية للكلمات تتأتى من دلالتها الرومانسية ونغمتها الحالمة وهذا ما تعوّل عليه الشاعرة كثيراً مقابل طرح للتصوير الفني إذ لا تحفل الشاعرة بتوليد علاقات لغوية تؤاخي بين المفردات بطرافة فهي مشغولة بنبضها العاطفي وتسعى إلى إيصاله دون إعمال الخيال فيه، والصور الفنية على ما فيها من إيحاء وجمال تبدو مكرورة ونمطية ومألوفة نحو: (جمر الغضب، نار الشوق، بحر الحرب، عرش فؤادي، لفحات الحنين، رجفات الهوى) إن شعر أحلام يرضي الذائقة العفوية والذات المرهفة اللاهثة خلف العاطفة للارتواء منها. ولأن المخزون اللفظي محدود بم عجم خاص تستدعيه الشاعرة لا نعثر على صوت الآخرين وأساليبهم فالتناص مع التراث الشعري قديما وحديثا والتفاعل مع التجارب الشعرية غير مقروء. ويمكن تفسير هذا بحداثة التجربة والمرحلة العمرية التي يمثلها فالمخزون الثقافي للشاعر هو نتاج خبرة طويلة، وقد يفسر أيضاً بعلو صوت الذات والارتباط بتجارب آنية تحجب التأل في عوالم أخرى وتجارب إنسانية عميقة. وفي نص مبكر بعنوان (وداعا طفولتي) نجد استفزاز الشاعر محمد المشعان رحمه الله لمشاعر الشاعرة في قصيدته (وداعا أيها الستون) مما حرك المشاعر وحرض على المعارضة الشعرية وبرغم تقليدية الغرض إلا أن القصيدة لها وقع جميل موسيقيا ومعنويا. ومن ناحية أخرى بتأمل التراكيب ودلالتها نلحظ إيثارا للضمائر مستترة ومتصلة ومنفصلة فضمائر المتكلم والمخاطب عمدةرئيسه في النسيج اللغوي وهذا يفسر وصف الديوان بسمة الأنا والآخر، فاللغة تكشف عن الذات والآخر في استخدام ضخم للضمائر الدالة عليهما، ولنتأمل اكتناز النص بأنا وأنت في قصيدة (قراءة الحب): لا تقل لي كم بلغت اليوم في دنيا ودادك كم رصيدي من حنانك لا تقل لي لذ بصمت ثم دعني اقرأ الحب بعينيك وأصغي لتناهيد فؤادك لحديث الروح نحو الروح دعني أنتشي من نغماتك فأنا أعلم أني ياحياتي كل شيء ساحري في حياتك في النص حشد لضمائر دالة على المتكلم بلغت ثلاثة عشر ضميرا، وأخرى دالة على المخاطب بلغت أحد عشر ضميرا، وهذا العدالة في توزيع الضمائر ترشح ما سبق قوله من الاحتواء العاطفي الذي يغلف القصائد من طرفيها (هو وهي) ومن حضورهما معا بوصفهما موضوعا شعريا سمته العطاء المتبادل في الحب. وعن الجانب الموسيقي فقد تراوحت القصائد ما بين الشعر التفعيلي والتناظري مع إيثار الأول منهما اذ استحوذ على اثنتين وعشرين قصيدة من بين قصائد الديوان الخمس والثلاثين في حي أتى الشعر التناظري في ثلاثة عشر نصا. وفي تجربة موسيقية فريدة في الديوان يزدوج الأداء الموسيقي في قصيدة (يا أول طفل أعشقه) إذ افتتحت القصيدة بتفعيلة الكامل: كالحلم حين رأيت ووجهك في المساء وشممت ريحك بعد طول الانتظار ... إلخ ويمضي النص على هذا الوزن في ثلاثة عشر سطراً ثم ينتقل الإيقاع إلى بحر المتدارك في ستة عشر بيتاً منوعة القوافي تسهلها بروي النون: وتعال بحضني يا و لدي وامنحني حبا وحنانا وتعال أشمك يا أملي لأإيح القلب الولهانا ونلحظ قصر النفس الشعري في الغالب، وتبدو معظم القصائد متساوية في طولها، وأطول النصوص قصيدة (وداعا طفولتي) في أربعة وأربعين سطرا وقصيدة (زلزليني) في ثلاثين بيتا وهي من بواكير نصوص الشاعرة، وقد يفسر هذا بأن الشاعرة مشغولة باللحظة الشعرية التي تسكنها فتفرغها شعرا وليد اللحظة دون تعمد إطالة الشعور أو التحكم في امتداده فيكتنز النص بالعاطفة التي لا تفتر ولا نجد تزيدا يسخو على الموقف. وأخيرا الديوان يمثل مرحلة عمرية أحسنت الشاعرة في توثيقها مبكرا، والترتيب الزمني لقصائد الديوان يكشف عن تطور في النصوص المتأخرة، وهو يبشر بجميل قادم. فالشاعرة أحلام الحميد تمتلك مقومات شاعرية جميل وشاعرة تستحق المتابعة.