يرى الأسوياء أن حقوق الأفراد وحرياتهم صنوان لايفترقان، والحقوق تستلهم قدرتها الاستيعابية من قيمة المساواة التامة كي لاتوفر مجالاً للاستغلال أو الاستقواء أوالاستضعاف، بينما المجتمعات الأبوية والمعلمية تعاني الفوقية والتراتبية الهرمية، لذلك تكون حقوق أفرادها مستغلة ومنتهكة بتعدد الولايات المحروسة بقوة القانون قدم لي مقال رئيس تحرير جريدة الحياة الأستاذ جميل الذيابي المعنون ب"الأخ جميل .. لايمكنك السفر" استلهاماً شعورياً معرفياً للآثار النفسية المترتبة على تباين البعد الحقوقي بين الرجل والمرأة عندما يصدم أحدهما بمنعه من السفر، تحدث الزميل جميل عن قصته في مطار الرياض وهو يهم بالسفر إلى لندن وصدمته القاسية وهو ينتظر ختم جواز سفره عندما بادره موظف الجوازات: "الأخ جميل لا يمكنك السفر" صدمته للحظة جعلته يحاكم نفسه "ماذا هببت حتى أمنع من السفر؟! يا ترى هل الأسباب لها علاقة بجريدة الحياة، أو مقالاتي أو أسباب أخرى..لا أعلم عنها؟" ليفيق من صدمته بأن جوازه على وشك الانتهاء ويحتاج لتجديد.. لذا لايمكنه السفر. وعلى إثر شفاعة زميله تفهم موظف الجوازات الموقف، فنبه "المواطن جميل الذيابي" بضرورة تجديد جوازه بعد رجوعه، لينتهي الموقف ببساطة. بمقاربة قريبة بعيدة؛ حدث لي موقف مشابه قبل أسبوعين تقريباً وفي مطار الرياض أيضاً، وأنا أريد السفر لدبي، عندما وجه لي الموظف عبارة "لايمكنني السفر"، لماذا؟ لأن ولي أمري الذي بالطبع" ليس أدرى بأمري" نسي أن يضيف إذنه الكريم عند تجديده جوازي، الجملة اختصرت الموقف التعيس حد القهر، فلم تهن عليّ نفسي لأقدم الأعذار، أو أترجى لأمارس حقي بالسفر، بل أنسنت خطابي وساءلت الموظف: هلا نظرت في عمري وقد جاوز سن الرشد بسنين عددا.. فعلامَ تهلك نفسي بالقهر بددا!! لم أكن وحدي وإلا لتعقدت المسألة أكثر، لما يحاط بالمرأة من شكوك، كان معي "محرم محرّم" كما يردد الفقهاء، فوعد الضابط بإصلاح الأمر فور الرجوع من السفر، لكن الضابط تعنّت، كلمت ولي أمري وشرح للضابط الموقف وأعطاه كل الإثباتات أنه وليي الحالي، ويرضى بسفري، طبعاً؛ طابور الأولياء يتغير بتغير ظروف الحياة والموت والأقدار على المرأة فلا يسقط عنها حتى تدفن، وبعد تثبت عالي الهمة قدم لي الضابط جوازي كهبة يتحسن بها علي، مذكِّراً بأن ما قام به خدمة خطيرة يتحمل هو مسؤوليتها؟!! أحسست تلك اللحظة أني مجرمة نالت العفو، ركضت لألحق الرحلة قبل إقلاعها، والغبن يضم الكون فلكأنه مجرد نقطة ضئيلة تافهة أمام شعوري المضني المجروح. أكد الضابط أني سأمنع مرة أخرى إن لم يسجل وليي إذن سفري في النظام،(للمعلومية؛ المحرم الذي كنت برفقته أصغر مني وأنا خالته). الموقف الذي تعرض له الزميل جميل كان نتيجة خطئه لعدم تجديد جوازه، فكيف بمن لازالت تمنع من السفر لمجرد أنها جنس أنثوي ارتكب خطيئة الوجود في بيئة تحرم عليه حق حركته واستقلال قراراته، وكأنها مجرم تجب ملاحقته وتتبعه حتى برسائل الجوالات؛ خرجت مولاتكم، رجعت مولاتكم بالتاريخ والساعة والدقيقة، وبعبثية تهدم الحق والأخلاق. نحن (معاشر النساء) ممنوعات من السفر، وتجاربنا في المطار لازالت تفرز الكثير من التقزز الأخلاقي القادح في كرامتنا وأهليتنا وإنسانيتنا، ستقولون هذا ليس منعاً من السفر، بلى؛ لأنه لايمكن أن أسافر (حالة المنع) إجراءً إلا إذا كان سفري ممهوراً بموافقة وليي، الذي هو في نفس الثقافة (الذئب) الذي يحافظ على (النعجة)، ويحفظها من الضياع كما تقول كتبنا المدرسية؛ إن المرأة عندما تكون وحدها بدون الجاسوس الشرعي فسدت وأفسدت، فسدت لغة غرائزية مفهومة، أما أفسدت فالمقصود: لإفسادها الذئاب الآخرون الذين هم أولياء على نساء أخريات!، هذا وهي ناقصة الأهلية والعقل والدين والمواطنة، وتتصرف في الذئاب فتفسدهم، كيف لو كانت كاملة؟!، لكان كل ذئاب المجتمع فاسدين ولله الحمد والشكر.. أنا كامرأة، سفري؛ حقي في الحركة ليس محفوظاً، بل مهدرٌ، يتصرف به الولي؛ فيمنعه أو يقسّطه أو يهبه، وتهديد الولي بإذنه يملكه بحق النظام، فلو خرجت امرأة للسفر وطرأ للولي منعها فتصرفه جائز نظاماً، وإن كان منعه مجرد مزاج أو انتقام أو توتر أسري، أو كان مريضاً نفسياً أو مجرماً أو فاسداً... فإذن الولي ورقة يهدد بها من يشاء وقتما يشاء، والقصص تقول الكثير عن تربح الولي بإذنه المبجل، وكسب المزيد من "العفرنة" و"الفرعنة" الذكورية مقابل القهر النسائي الممجوج أخلاقياً.. انتقل نظام الحجر على المرأة من الورقة الصفراء إلى النظام الالكتروني، بزيادة رسائل تذكر ولياًّ، ناسياً أو غافللاً، أن مولاته خرجت / وصلت في التاريخ والمطار الفلاني.. لينام الولي ملء عينيه عن شوارد الشك - هانئاً-.. فالتطمينات بالملاحقة الأنثوية متواصلة، والنظام يخدم ولاية الذكور ويسهلها، بل ويفرضها بدون حق. إجراءات حكومية تشرعن إهانة المرأة والتصرف بحقها وهي راشدة، بل وتمدد إهانتها ليتعدى التصرف في ذاتها والدَها إلى أخيها وولدها وحفيدها ليمرر الإذن بحركتها أو يمنعه!! إذا قيدتني فأنت تقتل فيّ حق إنسانية وجودي واعتباري، وتسهل لي طرق النفور الوجداني والعاطفي تجاه علاقات ما كان لك كنظام أن تضفي عليها هيمنة قانونية، وتتخذ بها إجراءات تكسبها حقاً بصورة باطل. فهذا التنظيم المورث للقهر يوجه لمزيد من الشحن التراتبي المفضي للتوتر وربما العداوة، ويفتح المجال لمزيد اعتداءات على المرأة وحقوقها الطبيعية، وقد تعرضت أمهات وفتيات بسببه للاستغلال والابتزاز، فلنعترف أن التغيير سنة كونية وأن الأوان آن لنزيل عواهن التنظيمات التي أستمرأت إهانة المرأة وألحقت نظرة الانتقاص والدونية بها، فلئن كانت الثقافة رسختها في الوعي، فلايصح أن يكسبها النظام قوة، بل عليه أن يجرمها ويعمل على تكوين وعي مضاد للقهر والانتقاص والدونية، وعي يتألق بالمساواة الحقوقية والوطنية فالمرأة يستحق ولاؤها ليتم، أن تعامل معاملة مواطنة كاملة، وبمسؤولية تامة عن نفسها، كالرجل تماماً، لا أن تظل مأسورة لوعي ذكوري يهاجم إنسانيتها ويفرض عليها سجوناً وأولياء ما أنزل الله بهم من سلطان بلا ذنب أتته ولا خطيئة. لهذا المنع قراءة توعوية؛ تتفق حول تنقص المرأة وتبعيتها، وتختلف في سببيتها؛ فمن يرى النظام السبب، يلجأ لتعداد الممارسات الإجرائية التي تحتقر المرأة، كنظام الولاية الممتد طوال الحياة على المرأة لا يتركها تتنفس حق ولاية نفسها ولو كان جزءا من الزمان شحيحا، والذي ترشح به كتب التعليم ومؤسسة القضاء والوزارات، ويمارس التحكم في حقها في التملك والتعليم والوظيفة، بل وفي تقرير أصغر العمليات الجراحية. ومن يعتقد أن سببها توعوي؛ يسند المسؤولية للوعي المأزوم بانتقاص المرأة في الوقت الذي يرفع شعار الإسلام كرم المرأة، ويؤكد أن الوعي الديني المسكون بالوعظ المستمر بالإهانة والتبخيس هو المسؤول الجذري، وبعض الوعاظ اليوم وصلوا بدجلهم للكذب العلمي من أجل زخ مهاتراتهم المنتقصة للمرأة كحكاية "الغدة" و"المبايض". والحقيقة؛ الاثنان يكملان بعضهما، ولكن إذا ما نظرنا لقدرة النظام على هدم سراديب الظلام والخروج للنور فلا شك أن قوة القرار السياسي وحركته توفر اختصار الزمن للخروج من بوتقة الظلم المستبد، وهنا أوافق تماماً بأن انتظار تغير الوعي هو هدر للحقوق، والمفترض إصلاح الأنظمة أولاً، والعمل الجاد على تكريس أنسنة الخطاب الموجه تجاه المرأة، ليتشكل وعي ثقافي لائق بإنسانيتها. الحقوق الشخصية لاتقبل القسمة على اثنين، حق الإنسان ملكه وحده، وعندما يشاركني أحد حقي ليكون له حق منعه أو إتاحته فهذا تعدٍ صريح، وإن تدثر بلباس الدين، لا أقول ما قلت قدحاً للرجال، بل لأن الحقوق يجب أن تصان فلا تترك مجالاً للاستغلال ونهباً للنفوس، فقد تضعف النفوس فتستغل صلاحياتها الممتدة لغيرها وتوقع بها الضرر والقهر. فحقوق الأفراد لا يصح أن تكون منوطة بغيرهم، بل لابد من صفة إطلاق الحق، لئلا يكون خاضعاً لازدواجية معايير ولا لإمكانية اقتحام أو تعطيل، إن الحقوق تفرض بإطلاقها وإلا كانت كمن يرجو بلوغها بالأماني، وحق المرأة في الحركة لدينا - كما غيره من الحقوق - حق مقطوع التمتع به لحساب أطراف أخرى؛ إن وافقت حصل وإن منعت امتنع، والتدخل ب"إجراء" السماح بالسفر يعد تعدياً لاستطالته كقيد قانوني بدون حق لا من شرع ولا عقل، فاعتبار الإجراءات الحكومية مسؤولية تنظيم لحقوق العامة، وحماية الحريات الشخصية لا التدخل بها. يرى الأسوياء أن حقوق الأفراد وحرياتهم صنوان لايفترقان، والحقوق تستلهم قدرتها الاستيعابية من قيمة المساواة التامة كي لاتوفر مجالاً للاستغلال أو الاستقواء أوالاستضعاف، بينما المجتمعات الأبوية والمعلمية تعاني الفوقية والتراتبية الهرمية، لذلك تكون حقوق أفرادها مستغلة ومنتهكة بتعدد الولايات المحروسة بقوة القانون. يقول الأستاذ جميل:"ما أقسى عبارة (لا يمكنك السفر) على النفس"، عندما قالها لي موظف الجوازات شعرت بوخزة ألم عاجلة، وأعدت شريط الزمن بالأفعال والأقوال والأفكار في ثوان، وسألت نفسي: في ماذا أسأت للوطن؟" صدقاً؛ المنع لايكون إلا نتيجة إساءة، ونحن معاشر النساء نسأل سؤال الحق ذاته؛ في ماذا أسأنا للوطن؟ ليظل حقنا مسجوناً بولايات ذكورية؟!! الزميل جميل أحس ألمها كعبارة وموقف قصير انتهى بخير، ونحن لازلنا نرسف في أرتال بغيها حتى اليوم! إنه لا يوجد عقل ولادين ولا شريعة تقر التدخل بين الحق وصاحبه، وقد آن للمسؤولين الاعتذار للمواطنات عن عدم تمكينهن من السفر، فالحقوق ليست مكرمة بل واجبٌ على الدولة صيانتها من الانتهاك، والوقت حان لاستبدال مخاوف النساء بطمأنينة حق مشروع غير مشوب بمنة ولي ولا غيره..