عندما نطرق دربا جديدة فقد تأخذنا للمكان نفسه الذي اعتدناه ولكن حتما سيكون هناك فارق التجربة والمغامرة والخبرة التي أضيفت إلى قائمة معلوماتنا، حتى ولو كانت هناك دروب اعتدنا أن نسلكها في أمور تدخل في الإطار الشرعي أو حتى المسلمات الاجتماعية، فإنه يبدو من المهم أن نسكبها في قوالب مختلفة وخلاقة. على سبيل المثال فكرة (الوقف) على الرغم من عمرها الطويل في تاريخنا الفقهي، وكثير من الأحكام الفقهية التي صدرت حولها وعنها ولكنها مابرحت تمارس بطريقة تقليدية تضمر وتشحب بها النواحي العصرية المبتكرة. تبادر هذا إلى ذهني وأنا أطلع على مشروع بيئي انساني رائع لحماية الغابات الاستوائية المطيرة في أمريكا اللاتينية، فتلك الغابات التي تعتبر (رئة العالم) المنقية للهواء، تساعد على التوازن البيئي كما أنها تشتمل على أصناف هائلة من المخلوقات والنباتات.. لكنها مع الأسف تعاني جميعها خطر الانقراض بفعل قطع أشجار الغابات الجائر هناك. وقد تبادر إلى ذهن ناشطي البيئة هناك فكرة خلاقة ومختلفة لوقف النهم الصناعي لخشب غابات الأمازون، حيث كانت تجمع أجنحة الفراشات الاستوائية الخلابة (الفراشات عمرها قصير يتراوح مابين أسبوعين إلى ثلاثة أشهر) فعندما تموت يحنطون أجنحتها ويحيطونها بكريستال ومشغولات فضية جذابة، ومن ثم يبيعونها على شكل حلى ومجوهرات في أنحاء العالم، والمردود المادي (يوقف) لهيئات حماية البيئة في تلك الغابات التي تشتري أراضي الغابات وتعيد تأهيلها وزراعتها وأيضا تمنع عنها القطع الجائر. هذه الفكرة الوقفية المبتكرة لحماية (رئة العالم) ذكرتني بمشروع مشابه في كندا يدخل في نفس الإطار اسمه (we wood) حيث يجمع حرفيو الأشغال اليدوية والفنانون النشطون بقايا الاخشاب التي استعملت في مختلف الصناعات، ليصنعوا منها (ساعات) خشبية دقيقة الصنع جميلة الصياغة وبأسعار مناسبة، وبأثمانها يتم ابتياع شجرة وإعادة تشجير تلك الغابات، لحماية التربة من التخلخل والمساعدة في انتظام التوازن البيئي للمخلوقات هناك. بالطبع نبع الأفكار الخلاقة لا ينضب طالما أن هناك وعيا مبتكرا وإرادة جادة تحاول أن تحمي أمّنا الأرض من قوارض آلات المصانع النهمة. وعند مقارنة ما سبق بما يحدث في بيئتنا الصحراوية المتقشفة نشعر حقا بالأسف.. بل بألم عميق، فهناك استنزاف هائل للمياه الجوفية غير المتجددة والقابلة للنضوب والتي تجمعت عبر آلاف السنين، وهناك الرعي الجائر الذي دمر الغطاء النباتي الشحيح الذي كان يثبت التربة ويحمينا من الأتربة، وهناك أيضا الاحتطاب الجائر فرضه مزاج شتوي (أناني) حول جمر الغضا والسمر، دون التفكير بحكاية شجرة عمرها عشرات السنوات كابدت الحر والقر وتجهم الصحراء وشح المياه، ومن ثم نلقمها وقودا لليلة واحدة داخل مواقدنا الشتوية المذهبة. نقترب من مطالع الشتاء ويظل الاحتطاب الجائر لأشجار محلية تباع على مسمع ومرأى من الكل دون أن يكون هناك توعية مكثفة في هذا المجال، ودون عملية تشجير بديل، يحفظ التوزان البيئي وتماسك التربة وينهض دون عواصف الرمال. سمعنا أن أحد مهام كرسي الأمير سلطان لحماية البيئة والحياة الفطرية في جامعة الملك سعود هو توطين عدد من التقنيات الحديثة التي تساعد على حماية البيئة من ناحية وإعادة تأهيلها من ناحية أخرى.. ولكن مع الأسف لم نشهد إلى الآن أي أمر على أرض الواقع. وأعود الآن إلى رأس الموضوع و(فكرة الوقف) الخيري لحماية البيئة أي (وقف ساهر) على بيئة تكابد الكثير من الصعوبات دون أن يكون هناك تحركات ملموسة في هذا المجال.. حتى من باب التوعية الإعلامية. وفي النهاية نجد أننا نجيد السخط والتذمر في مواسم الغبار، ولكن بالمقابل لم نلمس على أرض الواقع تحركات من هيئة حماية البيئة الفطرية، أو كراسي الأبحاث، أو الجامعات الكبرى ومدن التقنية لمقاربة هذا الشأن الوطني الهام.