هناك أسباب عديدة تجعلنا نعرف جماعة الإخوان المسلمين في مصر أكثر من معرفتنا بجماعة الإخوان في تركيا، لعلّ أهم تلك الأسباب هو اللغة والبعد الجغرافي، إضافة إلى اختلاف الممارسة التطبيقية للمنهج الإخواني. والواقع أنّ رئيس الوزراء في تركيا السيد رجب طيب أردوغان إخواني قد مضت عليه فترة في رئاسة تركيا، واستطاع تقديم منجزات لبلاده لأنه تكيّف مع المنهج الذي كانت تسير عليه تركيا ولم يُصادم المجتمع وقتها ويستعجل في تغيير تركيبته كما فعل الرئيس المصري السابق محمد مرسي. والشائع أن حزب أردوغان في تركيا فاز ليس لأنه حزب ديني ولكن لأنه قدّم تصورات جيدة عن الاقتصاد التركي، وهو ما اقتنع به الأتراك حينما انتخبوه. ولكن أردوغان حينما شعر بالثقة والسيطرة بدأ يمارس نوعاً من الهيمنة على المجتمع والمؤسسات التركية ولعل آخر تلك الممارسات ما حصل في ميدان تقسيم في أسطنبول قبل فترة وجيزة، وقد تصدّى له المجتمع ومنعه من تنفيذ مطامحه في تغيير هوية الميدان. ومن أحداث ميدان تقسيم، بدأت بوادر النهج الإخواني تبرز للعيان المتمثل في مصادرة الآراء الأخرى واتّهام المخالفين بأنّ لهم أجندة خارجية أو أهدافاً مشبوهة. ذكر لي أكثر من شخص من الأتراك بأن الشعب التركي قد ضاق ذرعاً بالسيد أردوغان وأنهم بالفعل يسعون إلى تغييره بعد أحداث تقسيم، ويذكرون أن الوضع الاقتصادي ليس سوى دعاية أكثر من كونه حقيقة يعيشها الشعب. ومنذ تلك الأحداث ونحن نتابع ما يحصل في تركيا من أعمال لا تتناسب مع الشعارات التي كان يطلقها أردوغان من مثل قيامه بتهديد وسائل الإعلام وإجبار ما يزيد على 72 صحفياً على ترك العمل في الصحافة ومحاولة إسكات أي معارض له بالقوة. وهذه التصرفات مخالفة لما كنّا نسمعه منه حينما نصح مصر بالعمل بالمنهج العلماني وهو ما قابل رفضاً وربما استهجاناً لدى جماعة الإخوان في مصر. والواقع أن الشخصية التركية بل وطريقة التديّن التركية تختلف عن الشخصية العربية وعن الممارسات الدينية المتّبعة في بعض الدول العربية. ومن الصعوبة على أي رئيس محو الهويّة التركية من خلال فرض ممارسات وسنّ أنظمة وقوانين تستبدل هذه الهوية التاريخية العريقة بهوية إخوانية حزبية منطوية على ذاتها لاتؤمن إلا بنفسها كما فعل مرسي خلال عام واحد فقط. والملاحظ أنه بعد أحداث 30 يونيو التي عُزل فيها الرئيس مرسي بدأت تركيا في وضعٍ شرس مع المتغيرات حيث رفضت هذه الثورة وتمسكت بمصطلح "الشرعية" الذي روّج له إخوان مصر، لدرجة أنهم يُهدّدون بعدم التعاون مع أي نظام في مصر سوى نظام مرسي. وهنا نجد التلاحم جليّاً بين أعضاء هذا التنظيم الدولي للإخوان، فأردوغان ينتمي إلى حزب "التنمية والعدالة"، ومرسي ينتمي إلى حزب "الحرية والعدالة"، وكلاهما مؤمن بمنهج الحزب الإخواني الذي يعتمد على الولاء للحزب على حساب الوطن. وبقدر ما دمّر مرسي مصر ومقدراتها بسبب تفكيره الحزبي الضيّق فإن أردوغان يمكن أن يسير في نفس المسلك إن أصرّ على موقفه، وسوف يخسر تأييد الشعب التركي ولن يستمر حزبه في الحكم مدة أطول مما مضى. ويطرح عدد من المحللين تساؤلات حول سبب دفاع أردوغان عن مرسي بهذه الطريقة المستميتة التي تُنكر الواقع، وتتشبّث بالأوهام؛ فهل هو دفاع عن الإخوان أنفسهم من منطلق أن سقوط مرسي يعني سقوط جماعة الإخوان ليس فقط في مصر وإنما سقوط هذا التنظيم الدولي في كل امتداداته؟ وبناء عليه، فإن أردوغان يخشى أن يمتد هذا السقوط السياسي إلى سقوط فكري بعد أن انكشف النهج الإخواني في الإدارة والتفكير أمام الناس واتّضحت الألاعيب والحيل التي تتلبّس برداء الدين لخداع البسطاء والسيطرة على عقول محدودي الفكر. والملاحظ أن شعبية الإخوان بدأت تنحسر في أماكن كثيرة لدرجة أن كبار زعماء الإخوان عندنا في المملكة تنصّلوا من هذا الانتماء وأنكروه. وإذا سلمنا بهذه الفرضية، فإن أردوغان يعيش هلعاً من سقوط حزبه الإخواني في تركيا؛ وكأنه في دفاعه عن مرسي إنما يدافع عن نفسه. وهناك فرضيّة أخرى تُفسّر دفاع أردوغان بأنه دفاع عن الشرعية الانتخابية، ولكن هذه الفرضية لاتتفق مع توجّهات تركيا في موقفها مع سقوط حسني مبارك المنتخب، والحرب ضد بشار الأسد المنتخب كذلك، فنجد تركيا في هذين الموقفين مع توجّهات الشعوب الساعية لإسقاط الأنظمة، بيد أن هذا الموقف لم يستمر مع الشعب المصري حينما صار طرف الحكم من نفس الحزب. وهذا النهج واحد من سمات المنهج الإخواني الذي يتّسم بأنه يقف مع مصالحه مستغلا أي حدث أو موقف لصالحه وفي الوقت نفسه فإنه يرفض الموقف ذاته ويقف ضده فيما لو تعارض مع مصالحه، وهو في كلتا الحالتين يبرر تصرفاته بالانطلاق من الدين. ومن خلال استقراء الأحداث التي مضت والجارية حالياً، فمن المتوقع أن أردوغان يتّجه بتركيا نحو طريق مسدودة، وربما يثور عليه الشعب التركي مُجدداً استمراراً لثورة ميدان تقسيم ولن يستطيع حينها أن يكمل مدّته المتبقّية، وتؤول به الأمور بمثل ما آلت بصديقه مرسي..