(الميدان يا حميدان)! هذا مثل شعبي يتردد في كل مكان!.. ربما كان من أكثر الأمثال في الاستشهاد! مرة يقال على سبيل التحدي! ومرة يقال على سبيل التجربة! وثالثة يقال على سبيل السخرية! (الميدان يا حميدان!).. ورغم أنه مثل شعبي سائر.. إلاًّ أنه فصيح اللفظ.. بليغ المعنى.. يرمز.. ويوجز.. يوقظ.. ويوجع.. يثير.. ويستثير.. ولهجة الجزيرة العربية عامة، ووسطها خاصة،، ظلت أقرب اللهجات إلى الفصحى.. وأشعارها الشعبية.. وأمثالها السائرة.. وأقوالها المأثورة.. امتداد للأدب العربي الفصيح.. تقاربه.. وتجاريه.. تستمد منه.. تتلمذ عليه.. وتقتدي به.. فالأدب الفصيح يتوهج في الأدب الشعبي توهج الجمر في الرماد.. وابنُ اللَّعبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ لم يستطع صولة البُزْلِ القناعيسِ وفي الزمان الغابر كان هذا المثل الرائع يتردد في ساحات الوغى.. وميادين الحروب.. وفي الرد على الوعيد والتهديد في جلائلة الأمور!.. أما في الزمان الحاضر فقد صار هذا المثل الرائع يتردد في (مباريات الكرة)!! وفي (مُرَادّ الشعراء) (شعر القلطة) وفي (سوق الأسهم)! مع نعومة الحياة أصبح المثل ناعماً يقوله صاحبه باسما..! ولكل زمان دولة ورجال! والحمد لله على الأمن والنعمة! يقول الشاعر العربي القديم: جاء شقيقٌ عارضاً رمحه إنّ بنى عمَّكَ فيهم رماح! وهذا من شواهد البلاغة على التأكيد!.. فقدوم (شقيق) - وهذا اسمه - عارضاً رمحه.. يدل على استهتاره ببني عمه الذين جاء مستعرضاً أمامهم يريد أن يخيفهم ويستعرض قوته عليهم!.. فأجابه شاعرهم: (إنّ بني عمك فيهم رماح) استخدم حرف التأكيد (إنَّ) ليوقظ هذا المستهتر.. ويؤكد له أنه ليس الوحيد الذي يستطيع استخدام الرمح سواء في الطعن أو التهديد.. فإن بني عمه فيهم رماح!.. كأنه يقول له: رويدك.. على مهلك!.. من تظن نفسك؟!.. إن كنت فارساً فنحن فرسان! وإن كان معك رمح فإن معنا رماح.. وإن كان فيك شعر فادنُ.. الميدان يا حميدان! وهناك مثل شعبي مصري بهذا المعني.. وهو (الميّه تكذّب الغطاس)! فإذا تفاخر أحد الغواصين، وزعم أنه يستطيع الغوص في الماء ربع ساعة بسهولة قالوا: (الميه تكذب الغطاس) يا الله.. أغطس ونشوف!.. هذا معنى المثل الحرفي وهو واضح.. لكنه - كما الأمثال - يستخدم ببلاغة في كل مناسبة مماثلة.. في كل من أدعى أمراً يفوق القدرة!.. ويجمع المثلين (الميدان يا حميدان) النجدي و(الميّه تكذّب الغطاس) المصري، مثلٌ عربي قديم: (عند الامتحان يكرم المرء أو يُهان)! وبشكل عام فإن التفاخر ممقوت! وخاصة إذا زاد عن الحدود!.. يدل على الشعور بالنقص! وقد كان العرب قديماً يفخرون ليرهبوا أعداءهم.. ويتفاخرون بينهم جهلاً منهم.. وقد أبطل الإسلام الحنيف التفاخر والتطاول (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وجمعهم بعقيدته السمحة فأصبحوا إخواناً في الإسلام. ولولا (الميدان) و(الاختبار) لكان الأمر سهلاً.. بل كانت الأمور كشرب الماء! ولكن هيهات! هناك عقبات وأي عقبات: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يُفقر والإقدام قتَّالُ! كما يقول المتنبي! وهو - المتنبي - يصف الجبان إذا لم يكن في ميدان: وإذا ما خلا الجبان بأرضٍ طلب الطعن وحده والنزالا! وأعقل من هذا مولى في العصر الأموي سأله الحجاج: - هل أنت شجاع؟! فقال: - والله ما أدري! ما جرّبت نفسي في الحرب! والميدان هو التجربة والامتحان.. وفيه على الطبيعة تظهر الحقيقة.. وتبين معادن الرجال مع طول التجارب: لا تحمدنَّ أمرءاً حتى تُجًرِّبه ولا تذمنَّهُ من غير تجريبِ وقد يفخر رجل بأبيه وجده وحين تجربه تجده عكس ما كانوا عليه.. وهذا ما حصل لحميدان الشويعر مع بعض الناس فقال (والعهدة على حميدان): الله من قوم يا مانع أصبح جاهلها شايبها إن جيب أحاكي واحدهم عن الديره ونوايبها قال أنّي شويخ من قبلك جدِّي هفّى جوانبها قلت ونعمين في جدّك والخيبة في عواقبها! (رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه) هذه الحكمة الناضجة تخلص الإنسان من جرح التحدي في الميدان.. تريحه وتريح الناس! كما أنه يرفع نفسه عما لا يليق بهِ لأنه يعرف قدرها. أما الذي لا يعرف قدر نفسه فقد يحشر عمره في موقف لا يحسد عليه، فكيف مثله مثل ابن اللبون - الذي لا حول له ولا طول - إذا تم قرنه مع فحول الجمال القوية.. كما قال جرير: وابن اللبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ لم يستطِع صولةَ البزلِ القناعيسِ!