هكذا يتمنى شاعرنا الشعبي أن الله جل وعلا وضع للطيب علامة، حتى نميزه من الخبيث، ونستريح، والله أعلم بعباده، وقد زودنا - عز وجل - بالعقل الذي نميز به الطيب من الخبيث، مع التجربة والسؤال والفراسة، فالحياة عمل وجهاد وليست وجبات جاهزة. والمثل الشعبي يقول: «ما على الطيب وسم».. وأكثر ما يقال هذا المثل حين نحترس من غريب أو نرفض طلب مجهول أو لا نحسن استقبال من لا نعرف ثم نأسف حيث يتضح أنه فاضل فنقول له معتذرين: «ما على الطيب وسم».. وهذا صحيح، فإن الطيْب أو الخبْث لا يظهران على الوجوه، وإنما هما في النوايا والقلوب، ولا يعلم ما في القلوب إلا علاّم الغيوب، غير أن الله - جل وعلا - منحنا العقل الذي نحكم به على أشياء كثيرة مهمة في دنيانا وعلاقاتنا، والعقل يقول لا تحكم على أحد قبل أن تجربه تجربة طويلة. يقول شاعرنا العربي: «لا تحمدنّ أمراً حتى تُجَرِّبَهُ ولا تذمنَّه من غير تجريب إن الرجال صناديق مقفلة وما مفاتيحها غير التجاريب» ويقول شاعرنا الشعبي ابن صقيه: «لا تمدح الرجال من غير تجريب كم واحد مثل الزبد يضمحل» فالتجربة امتحان طويل، والمثل العربي يقول: «عند الامتحان يكرم المرء أو يهان» * * * وورد أن رجلاً مدح رجلاً عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبالغ في الثناء عليه، فقال له الفاروق: - هل سافرت معه؟ قال الرجل: - كلا.. قال: - هل ائتمنته على مال فأداه لك؟! قال الرجل: - لا.. فقال الفاروق: - إذن لا تحكم عليه فلعلك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد.. وقد لقب رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاروق بأنه عبقري وقال: لم أر عبقرياً يفري كفريه.. وكان للفاروق فراسة المؤمن، وكان يقول: «لست بالخب ولا الخب يخدعني».. والخب هو الخدَّاع المرائي! * * * والتدين أساس ولكن هناك من يتظاهرون بالدين رياء أو هم منافقون، فهم - أي المنافقين - كثيرون في كل زمان ومكان، حتى أن الصحابة حين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم: «لماذا لا تطرد المنافقين من المدينة قال: «لو طردتهم لاستوحشتم» أي لبدت المدينة موحشة لكثرة البيوت المهجورة بسبب طرد أصحابها المنافقين! * * * ومن أوضح علامات وسمات الطيب وأصالة المدن وكرم الأخلاق (طيب الإنسان مع الضعفاء والفقراء، ومع من يقدر عليهم كمرؤوس وخدمه وزوجته) أما طيبه مع من هم أقوى منه كرئيس في العمل فهو ليس دليلاً فقد يكون تمثيلاً.. ويعد لنا حكيم نجد حميدان الشويعر أربع خصال تدل على «الطيب» وأربع خصال تدل على «الردى» فيقول: «طالب الفضل من عند الشحاح مثل من أهدى زمان الصراح لقاح أو مثل طابخ الفاس يبغي مناح أربع يرفعن الفتى بالعيون الظفر والكرم والوفا والصلاح وأربع ينزلن الفتى للهوان البخل والجبن والكذب والسفاح(1) وأربع ينزلن الفتى للزراج لين ترى جنوبه بيان صحاح(2) روشن عالي فوق كل الملا معلق ما هوته الوجيه السماح(3) ومكاشخ هدوم بغير القدا أو ذليل يزرق بطول الرماح(4) أو رباعية فخرها بالحمام هي نفاد الدوا ماتعرف الصياح(5) * * * ويقول إبراهيم بن مزيد محذراً من الخبثاء والمرائين والمنافقين وشياطين الإنس: «ألا يا ليت ربي يوم سوى عبيده حط للطيب علامة لجل في الناس شيطان ملبس ولو لوّت على راسه عمامة يعرك بالسلام وبالتحفي وهو شيخ وجثجاث طمامة مثل هذا تحذر منه جداً ولا تدني منامك من منامه وبعض الناس في ممشاه رافض يختل الناس في قلّ اهتمامه(6) يحني لحيته كنه (مطوع) ولا يفرق حلاله من حرامه حذارك لا تحطه لك ظنينة ترى ذاك الطمع منه السلامة وبعض الناس يبدي لك نصيحة ولكن ما تعرفه وش مرامة وهو ما مقصده نصح ولكن يبي يلبسك للحاجة خطامة والى منه قضى بك ما يريده أخذ سداك وضربك المهامة وبعض الناس يوريك المحبة وأرق من البرسيم في تمامة إلى قام يتمسكن بالتلفظ تقول أطهر واصح من الحمامة وهو بولة (حمار) عزك الله ينجس من مشي حوله رشامة»! هوامش: (1) السفاح: الزنا.. فصيحة (2) الزراج: اسفل سافلين.. وقوله (لين تبرى جنوبه بيات صحاح) يريد حتى يهزك جسمه وتظهر عظامه كأنه قلم بريء بعنف، والصورة الجسدية هنا كناية عن الهوان النفسي والانحطاط. (3) الروشن: مجلس الضيوف وكان في الدور الأول لا الأرضي، ولعل الكلمة هندية وهي معروفة في نجد والحجاز ومستخدمة إلى وقت قريب. (4) مكاشخ هدوم: مظهر فاخر (كشخة)، بغير القدا: بغير فعل جميل، وشطر البيت عن الجبان الذي يهدد بلا فعل. (5) رباعية: بندق ضعيفة بالكاد تصيد الحمام ينفد منها البارود (الدوا) بدون نفع. (6) رافض: أي يتظاهر برفض الدنيا رياء وختلاً.