قال الشيخ تركي بن راشد العبدالكريم، خطيب جامع الرشيد بالرياض: إن من أشد أمراض القلوب خطراً، وأكبرها إثماً، وأعظمها ضرراً على الأفراد والجماعات داء الحسد، إنه داءٌ عضال، ومرض فتاك، ما اتصف به امرؤ إلا دل على سوء الطوية، وقبح السريرة، وضعف الديانة، وقلة اليقين، وما حل في نفس إلا وأوردها موارد العطب والهلاك، وما فشا في أمة إلا حلّ فيها الإحن والشحناء، وعمت فيها العداوة والبغضاء، وفرقها شيعاً وأحزاباً فلا ألفة ولا إخاء في مجتمعاتها، ولا مودة ولا رحمة بين أفرادها. قال بعض أهل الحكمة: «الحسد عقيدُ الكفر، وحليفُ الباطل، وضد الحق، منه تتولد العداوة، وهو سبب كل قطيعة، ومفرّق كل جماعة، وقاطع كل رحم من الأقرباء، ومحدث التفرق بين القرناء، وملقِّح الشر بين الحلفاء»، فصفة هذه بعض آثارها، وشيء من مساوئها وأضرارها، لا غرو أن يُحرمها الإسلام، ويشدد في النهي عنها، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً». وروى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسدُ والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، أما إني لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين». وقال: إن الحسد ذنبٌ عظيم، وجرم كبير، وهو أول ذنب عُصي الله به في الأرض وفي السماء، فهو سبب إخراج إبليس من الجنة، وطرده من رحمة الله وقربه، حينما حسد آدم عليه الصلاة والسلام، وأبى واستكبر عن السجود له، وهو الذي حمل ابن آدم على قتل أخيه فأصبح من الخاسرين، وهو الذي منع أهل الكتاب من التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به، مع معرفتهم بأن ما جاء به حق وأنه نبيٌ مرسل من عند ربه، كما قال عزّ شأنه: {ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} (البقرة: 109). وهو الذي دفع بكفار قريش إلى معاداة النبي صلى الله عليه وسلم ورد دعوته، حتى قال بعض سادتهم: «إني لأعلم أن محمداً صادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة، فماذا يبقى لسائر قريش. وصدق الله العظيم إذ يقول: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} (الأنعام: 33). إن للحسد يا عباد الله مساوئ عظمى، ومفاسد كبرى، إذ قد يحمل على ارتكاب أنواع من الإثم، واقتراف صنوف من المعاصي، من جحد للحق، وقول بالباطل، وإخفاء للمحاسن وإظهار للمعايب، بل وربما حمل على إلحاق الأذى والضرر بالمحسود ظلماً وعدواناً، في أساليب مختلفة، ووسائل متنوعة في واقع الناس، ومن أقل ما قد يحمل عليه الوقيعة في عرض المحسود بالغيبة والنميمة والبهتان، ومحاولة النيل من كرامته، والحط من قدره ومكانته، وكفى بذلك إثماً وزوراً. ولو تأمل الحاسد في واقعه حقاً، لعلم أنه يعترض على ربه جلّ وعلا في أمره، وحكمه، وقضائه، وقدره، فهل يقع في الوجود سوى ما قدَّره سبحانه وكتبه، وهل يحصل لأحد من خير ونعمة إلا بتقدير الله عزَّ وجلّ وإرادته، لحكمة يشاؤها سبحانه، قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: «لا تُعادوا نعم الله، قيل له: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله». ولقد شدد القرآن الكريم في النهي عن الحسد، فقال الحق سبحانه وتعالى: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم مُلكاً عظيماً} (النساء: 54). وقال عزَّ وجلّ: {أهُم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سُخرياً ورحمت ربك خير مما يجمعون} (الزخرف: 32). وأضاف الشيخ العبدالكريم: قال بعض السلف: «من رضي بقضاء الله تعالى وقدره لم يسخطه أحد، ومن قنع بعطائه لم يدخله حسد»، ولو لم يكن في الحسد إلا ما يجلبه على صاحبه من الأذى، وما يورثه من غم ونكد، وهمّ وقلق، لكان رادعاً له عن الاتصاف به، وحاملاً له على السلامة منه، فكيف والحال أن الحاسد لا يكاد يسمع بخير حصل لفلان، أو أنعم الله بها على سواه من الأنام، إلا ويمتلئ قلبه غلاً وحسداً، وتمتلئ نفسه حسرة وجزعاً، فليس له في الحياة راحة، ولا لرضاه غاية، والمحسود يتقلب بنعم الله ولا يشعر بشيء مما في نفس حاسده من الآلام والحسرات. قال بعض الحكماء: «ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحسود، نفسٌ دائم، وهمٌ لازم، وقلب هائم، ولو لم يكن من الحسد إلا أنه خُلق دنيء يتوجّه نحو الأكفاء والأقارب، ويختص بالمخالط والمصاحب لكانت النزاهة عنه كرماً، والسلامة منه مغنماً، فكيف وهو بالنفس مُضر، وعلى الهم مُصر، حتى ربما أفضى بصاحبه إلى التلف، من غير نكاية في عدو، ولا إضرار بمحسود»، وقيل في منثور الحكم: «قاتل الله الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله». فهذه حال الحاسد في الدنيا، وضرره عليه فيها، أما ضرره على الدين فهو أكبر، وخطره على المرء في الآخرة أشد وأفظع، فهو من أسباب ذهاب حسنات المرء يوم القيامة، وكفى بذلك خسراناً مبيناً، روى أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب». وقال أبو الليث السمرقندي: «يصل إلى الحاسد خمسُ عقوبات قبل أن يصل حسده إلى المحسود: غم لا ينقطع، ومصيبة لا يُوجر عليها، ومذمة لا يُحمد عليها، وسخط الرب، وغلق باب التوفيق»(1)