يصف الروائي الأمريكي هنري ميللر في ثلاثية "الصلب الوردي" عملية الخلق الروائي بأنها أشبه بالغوص في بئر عميقة لانتشال "الجواهر" الأدبية الموجودة في القاع والتي لا يمكن الوصول لها إلا باعتزال المشاغل اليومية التافهة، فالإبداع موجود هناك، في أعماق الكاتب، وما من سبيل للغوص فيه والغرف منه إلا بالعزلة التامة عن الناس والحياة. ولأن هذا الترف لم يتحقق ل"ميللر" نفسه، فقد خصص أجزاء كبيرة من ثلاثيته للحديث عن معاناته في الكتابة، ومأساته مع زوجته الأولى، ومع فقره وتسكعه في شوارع نيويورك. تجربة الكتابة التي يعرضها ميللر في (روايته/سيرته) الغنية هذه، هي أشبه بتقرير مفصل عن عملية الإبداع الأدبي بما يعترضها من معضلات ذهنية ونفسية. إنها نصائح من كاتب مبدع عاش هذه التجربة وقدمها بأسلوب جميل في سياق حديثه عن حياته الخاصة، لينضم بذلك إلى الروسي نيكولاي غوغول الذي تحدث أيضاً عن تجربته في الكتابة في مقال بعنوان "كيف تعلمت الكتابة، والروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا في "نصائح إلى روائي شاب"، والروائي التشيكي ميلان كونديرا في كتابه المهم "فن الرواية"، والبريطاني كولن ولسون في كتابه المهم الذي يحمل أيضاً اسم "فن الراوية". لقد تحدث هؤلاء الروائيون عن معاناتهم مع الكتابة عن طريق الكتابة نفسها، عبر مؤلفات أدبية أبدعوها ووضعوا فيها نصائح للشباب الذين ينوون السير على نفس الطريق، لكن ماذا عن السينما التي تعتبر بشكل ما انعكاساً لعالم الأدب، هل يعيش المخرج نفس المعاناة؟ هل يجد صعوبة في الخلق؟ وهل حاول مقاربة معاناته بتصويره لحياة أديب ما يعاني من انكماش المخيلة؟. أهم فيلم يمكن ذكره في هذا الاتجاه هو الفيلم الإيطالي (8 ونصف) للمخرج فيردريكو فيلليني الذي أخرجه عام 1963 ورسم فيه الصعوبة التي ينطوي عليها عمل المخرج الفنان خاصة مع غياب الإلهام المحفز للإبداع. أما فيلم (بارتون فينك-Barton Fink) للأخوين إيثان وجويل كوين -الذي تحدثنا عنه سابقاً- فيصور معاناة المبدع داخل فضاء هوليود التجاري الذي يحبس مخيلة الفنان ولا يسمح لها بالتأمل ولا بالغوص في أعماق "بئر" الإبداع، ولعل هذا الفيلم يعتبر نموذجاً مثالياً لتناول السينما لمعضلة الإبداع، لأن أغلب الأفلام المهمة التي تنتمي لهذا الاتجاه إنما وجهت تركيزها على الكاتب المبدع الذي يعيش أزمات متنوعة تعيقه عن عملية الخلق الروائي. من هذه الأفلام؛ الفيلم الأمريكي المستقل Starting Out in the Evening الذي ظهر عام 2007 للمخرج أندرو واغنر وبطولة فرانك لانغيلا الذي يؤدي فيه دور روائي من نيويورك عزل نفسه عن الناس بدعوى التفرغ لكتابة رواية جديدة، على طريقة هنري ميللر، لكن دخول باحثة شابة إلى حياته يكشف أسباب هذه العزلة التي لم تكن إلا نتيجة لصدمة نفسية تعرض لها، وكأنها نوع من الدفاع عن النفس ضد عالم قاسٍ لا يرحم. لقد لاحظت هذه الباحثة، عبر حوارات رائعة مع الروائي العجوز، أن شخصيات رواياته الأولى كانت جريئة وشجاعة في اختيار مصيرها الخاص، بينما شخصياته الأخيرة أصبحت أكثر تحفظاً وأقل جرأة، في انعكاس مباشر للحالة النفسية للكاتب أثناء تأليفه للرواية. أما فيلم Wonder Boys للممثل مايكل دوغلاس فيقدم أزمة الإبداع بروح مرحة مصوراً ورطة الكاتب في إنهاء روايته بسبب انشغاله بمشكلاته الشخصية. ظهر الفيلم عام 2000 ونال دوغلاس ترشيحاً في الغولدن غلوب عن أدائه لدور الكاتب اليائس, والذي لم يكن أكثر يأساً من كاتب آخر ظهر العام الماضي في فيلم رائع آخر عنوانه The Words وأدى دوره برادلي كوبر، حيث وقعت في يد هذا الكاتب المبتدئ مسودة أدبية رائعة ومجهولة المصدر وقام بوضع اسمه عليها وحقق بفضلها نجاحاً أدبياً ساحقاً، لكنه يواجه مشكلتين، الأولى أنه لا يستطيع خلق رواية موازية لها في تألقها الأدبي، والثانية مخاوفه من انكشاف سرّه. معاناة المبدع في السينما ظهرت كذلك في أفلام عظيمة ذات أساليب سردية مبتكرة, مثل فيلم (الساعات-The Hours) الذي رسم هاجس الحرية والإبداع عند الروائية البريطانية الراحلة فيرجينيا وولف في قالب سردي بديع، ويشاركه في ذلك فيلم (اقتباس-Adaptation) الذي ظهر أيضاً عام 2002 وأدى فيه نيكولاس كيج دور كاتب سيناريو يعيش معاناة رهيبة أثناء كتابته لفيلم عن زهرة الأوركيد، حيث يغيب عنه الإلهام ولا يجد المفتاح الذي سيدخل من خلاله إلى العالم الجديد الذي يريد خلقه!، وقد عرض الفيلم هذه المعاناة في بناء فني فخم تداخل فيه خيال السيناريست وشخصياته بعالمه الحقيقي. وبالمثل يأتي فيلم (أغرب من الخيال-Stranger Than Fiction) عام 2006 ليقدم صراع كاتبة روائية مع شخصيات روايتها، وأدت دور البطولة فيه البريطانية إيما ثومبسون بشخصية الكاتبة التي تبدأ في تأليف رواية لكنها تواجه معاناة مع بطل روايتها الخيالي الذي يرفض الحياة المرسومة له ويسعى للتمرد عليها ولو بالقوة، ليتحول الصراع حينها إلى مواجهة مباشرة بين الكاتبة وبين عالمها الروائي المتخيل. وقد تكررت هذه الثيمة العام الماضي في فيلم آخر عنوانه Ruby Sparks عن روائي شاب يفاجأ بالشخصية الرئيسية في روايته، الفتاة الجميلة، تعيش في منزله، حقيقة وواقعاً. هذه تنويعات سينمائية مختلفة لأزمة المبدع أثناء الكتابة، أبطالها روائيون وسينمائيون يجدون صعوبة في خلق عوالمهم الأدبية لأسباب شتى، شخصية وفنية، وجميعهم يشتركون في بحثهم الحثيث عن تلك البئر التي وصفها هنري ميللر قبل أكثر من خمسين عاماً.