كما تأخذ السينما من الأدب روائعه التي تحولت إلى مصدر لا ينضب من الإلهام، على النحو الذي جعل من العمل الأدبي الواحد مصدرًا للعديد من الأفلام، فإن السينما منحت الأعمال الأدبية التي انطلقت فيها لا نهائيًا من الانتشار الجماهيري، ما كان يمكن أن تصل إليه هذه الأعمال وهي حبيسة أغلفة الكتب. يضاف إلى ذلك أن تقنيات السينما أعارت نفسها للكتب الأدبية التي أفادت من الأساليب السينمائية في التزامن والمشاهد الارتجالية، واللقطات المقربة والقطع وتراكب الصور والخفوت التدريجي والاندماج وغيرها. في تقديمه للكتاب “أدباء العالم والسينما” للناقد السينمائي “سمير فريد” يقول الدكتور جابر عصفور: إن المؤلف يمايز بين النوع الأول وهو الأدنى يمثل الفيلم الذي يترجم العمل الأدبي إلى لغة السينما ترجمة اقرب إلى الحرفية بدعوى احترام النص الأدبي وهي ترجمة بدأ معها الفيلم كأنه تصوير لصفحات الرواية المكتوبة وتحويلها إلى صور يتابعها المشاهد. أما النوع الأعلى من العلاقة بين الأدب والسينما فيتواصل أصحابه مع الأصل الأدبي بوصفه نقطة انطلاق في عملية تحويل جذري من مجال ومن لغة إلى لغة مختلفة، وهذا النوع الأعلى في القمة يحقق ما يسميه “سمير فريد” الإبداع على الإبداع. أي تجسيد رؤية إبداعية لمخرج في مؤازرة الرؤية الأصلية للكاتب، وذلك من المنظور الذي يجعل من العمل الأدبي الأصلي مصدرًا للوحي السينمائي الذي يحسب على مخرجه وليس على الكاتب الأصلي الذي أبدعه. ومن هذا المنظور للنوع الأعلى من العلاقة بين الأدب والسينما -يضيف الدكتور جابر عصفور- يمكن للأفلام المأخوذة عن الأعمال الأدبية أن تنتقل بسهولة فائقة من دائرة المؤازرة الإبداعية إلى دائرة التفسير الذي يتجسد بالتركيز على نقطة أو موضوع أو محور بعينه في الأصل الأدبي.. وإعادة صياغته بلغة السينما التي تستلزم في هذه الحالة درجات متعددة من تحويل الأصل بواسطة عمليات من التكبير أو التصغير أو التبديل أو التقديم أو التأخير والحذف والإضافة وذلك كله يحقق رؤية المخرج التي هي خلق مستقل بمعنى من المعاني أو ابداع مواز بكل المعاني وفعل التفسير الذي ينطوي عليه عمل المخرج الذي يقوم بالصياغة السينمائية للعمل الأدبي هو فعل ضروري لا يمكن أن يكون لفيلمه وزن بدونه بل إن هذا الفعل هو الذي يحدد قيمة الفيلم من حيث عرضه وثرائه ومن حيث الإضافة الكمية والكيفية التي يضيفها إلى المعاني الممثلة للعمل الأدبي الذي أخرجه وهذا هو السبب الذي يدفع العديد من المخرجين إلى إعادة إخراج العمل الأدبي نفسه سينمائيًا. في كتابه يتوقف سمير فريد وقفات تتراوح بين القصر والطول على خمسة وعشرين كاتبًا عالميًا، منهم “ايتاتوف الروسي” و“فانشورا التشيكي” و“هنري جيمس الامريكي” و“كارتبينة الكوبي” و“جونترجراس الالماني” و“دفونتيس المكسيكي” و“بيرانلدو الايطالي” ويضيف إلى هؤلاء الأدباء الذين نالوا شهرة أوسع امثال “جون شتانيتك” و“جوته” و“تشيكوف” و“نولستوى” و“أرثر ميللر” و“دستور يفسكي” و“هينجواي” وغيرهم ويمكن أن تحفظ عبر صفحات الكتاب أن عددًا يعنيه من الكتاب يجتذب إليه السينما على نحو دال يرجع إلى كتابة اللغة البصرية للأديب أو إلى جاذبية عوالمه، أو تشويق موضوعاته أو ثراء معالجته. ويتضح لقارئ الكتاب أن مؤلفه الناقد السينمائي سمير فريد من أولئك النقاد الذي يعمدون إلى تشجيع السينما على المضي في الإفادة من الإبداع الأدبي وعدم التوقف عن ذلك في السياقات التي تشمل الأدب القديم والوسيط والحديث والمعاصر على عكس النقاد الآخرين الذين يطالبون بابتعاد السينما عن الأعمال الأدبية والكتابة معًا على نحو مستقل وذلك بحجة أن الاعتماد على السينما يجعل المجال محدودًا أمام المخرج الذي يجد نفسه مقيدًا بنص لا يمكن الخروج عليه في النهاية. يتضمن الكتاب فصولًا تعبر عن انحياز مؤلفه إلى الفيلم الذي يتعامل صانعه مع الأصل الأدبي كمصدر للوحي والإلهام ويجد فيه ما يعبر عن ذاته فيصبح ابداعًا على الإبداع كما يتضح من اختيار المؤلف لفصول كتابه من بين عشرات المقالات والدراسات التي كتبها في السينما والأدب العالمي والتي نشرت طول الفترة في عام 1968م وحتى عام 2001 انحيازه ضد المركزية الغربية إلى جانب كبار أدباء أوروبا وأمريكا. في رأي سمير فريد أن فيلم المريض الانجليزي قصيدة من الشعر السينمائي الرومانتيكي ذات طابع ملحمي صنعت باندفاع الشعراء ومن دون الاهتمام والاتقان الحر في السيناريو حكم الصنع أو حتى الوحدة الأسلوبية للإخراج بين المشاهد الخارجية والداخلية وبالتحديد بين مشاهد الصحراء ومشاهد الغرف المغلقة مضيفًا أن الفيلم رغم هذا وبسبب هذا يأخذ المتفرج إلى عالمه ويحرك عواطفه ويسحره. يقول سمير فريد عن فيلم المريض الانجليزي: إنها قصيدة عن الحياة والحب والحرب والموت عن البشر في الشرق والغرب وفي المدينة والصحراء وعن اختلاف الثقافات والتصادم والتلاقح بينها وكما تجمع الشخصيات بين الألمان والهنود والانجليز والمجرمين والمصريين والكنديين والفرنسيين والبدو وبين المسلمين والمسيحيين والسيخ والملحدين يجمع الفيلم بين كاتب كندي من أصول آسيوية ومخرج بريطاني من أصول ايطالية ومصور استرالي وممثل ايراندي وآخر امريكي وممثلة فرنسية وأخرى انجليزية “المريض الانجليزي” تعبير عن زخم الحياة في ثلاث ساعات ودقيقتين حتى إنه يبدو مادة من دون مونتاج.