اليوم لا غرابة عندنا لو قال أحدهم إنه كان ساهراً طوال ليلة البارحة ولم ينم إلا بعد طلوع الشمس، وقد لا نسأله لماذا؛ لأن معظم الناس في وقتنا الحاضر اعتادوا السهر، وتوزعت ساعات النوم لديهم بين الليل والنهار بحسب الحاجة وطبيعة العمل. البارحة ساهر والعين ما نامت حتى صلاة الفجر لجت مساجدها لقد رتب الناس وقت مناسباتهم في الليالي وعدوها فرصة لاجتماعاتهم وتلاقيهم وهيئت قصور الأفراح والاستراحات لذلك، وصار النهار للعمل وقضاء الحاجات الخاصة فقلت الزيارات النهارية، وصار الوضع عكس ما كان عليه الجيل السابق تماماً، صارت عيون الليل ساهرة مستيقظة. إن طبيعة حياة الناس في الماضي نهار للمعاش والعمل والليل سبات ونوم وعبادة، كلهم يخلد فيه للراحة، وقل أن يوجد أحد خارج منزله بعد صلاة العشاء ولو أجل النوم ساعة واحدة قلنا إنه متعتم، ومن المستحيل أن توجد امرأة خارج بيتها بعد غياب الشمس، أو رجال في مجالسهم وأسواقهم بعد صلاة العتيم، وهي صلاة العشاء، فأول الليل وهو ما بين العشاءين لتناول وجبة العشاء ولقضاء بعض لوازم تهمهم في دورهم كإطعام بعض الدواب وسقيها أو حلبها أو ترتيب وإعداد أماكن وفرش النوم، تطفأ السرج وتهجع القرى بعد صلاة العشاء ويخلد الجميع للنوم فلا يسمع لأحد صوت ولا يصدر من أحد حركة، وقد اعتادوا هذا البرنامج سنين عديدة بل عقود وقرون من الزمن وتوارثوه جيلا بعد جيل واصطبغت في أذهانهم مفردة السهر على أنها نشاز لا تتلاءم مع السكون والهدوء والراحة وحالة لا يمر بها إلا مضطر. من هنا صار السهر حالة مختلفة تستدعي وتسترعي الانتباه، ولصاحب السهر سبب وجيه حمله على ذلك، إما ضيم وهم أو وجع أو انشغال بال تحول إلى أرق فتنغص نومه. لقد صار السهر علامة على أن الأمر ليس بالسهل على ذلك الشخص، فلا يسهر أحد للاستمتاع بقصة يقرأها أو يسمعها أو مشاهدة شيء يروق له أو من دون سبب، فالأبدان عادة مجهدة لا تحتمل اقتطاع وقت من الليل لفرح أو مرح أو تفرغ لصحبة يتبادلون الحديث، ولم يعتد المجتمع على ذلك، حتى مناسبات الزواج والفرح المصاحب لها لا يكادون يقتطعون من الليل سوى ساعة أو ساعتين، ثم ينتهي الفرح ويتم تناول الطعام في نهار اليوم التالي. إذا السهر مفردة فرضت نفسها واستدعيت في ساحة المعاناة ومصطلح يستحق أن ينظر إليه بنظرة فريدة مختلفة يمكن توظيفها لتعطي تصورا وتختصر صورة فنية في القصيدة عندما يريد الشاعر التعبير عن معاناة وشعور وإحساس لا تفي الكلمات بمطلوبه، فمجرد توظيف كلمة واحدة هي السهر يفهم منها كثير وتستطيع إيصال العديد من المعاني ويتفاعل المتلقي مع القصيدة لأن فيها ذلك المصطلح وهو كلمة (السهر) الذي اشبه ما يكون بالنافذة التي تفتح على جملة من المشاعر والأحاسيس لا حدود لها وكل يستطيع تلقيها بدرجة المعاناة التي يحس بها وفق السياق العام للقصيدة، وتعد في ذلك الوقت أبلغ كلمة يستخدمها الشعراء للتعبير عن حالة شعورية. يقول الشاعر: البارحه ساهر والعين ما نامت حتى صلاة الفجر لجت مساجدها أحيانا لا يجد الشاعر ولا غيره مفردة معبرة توصل الإحساس والشعور بالدرجة التي يريدها، وهو عجز وقصور مشترك في الحصيلة اللغوية للفرد ولا أقول في اللغة العربية، لأنها تستوعب كل المادي والمعنوي والتصورات، إنما تقصر القدرة على وصف الشعور والإحساس نفسه من قبل الشاعر، فالمفاهيم المعنوية عادة يصعب التعبير عنها وتظل المعاناة حبيسة لكن يبقى هناك جزء من الوصف لحالته سواء الفرح أو الحزن أو الحيرة أو غيرها من خلال كلمة لعلها توصل بعضا من الإحساس والشعور. وبما أن الأساليب التي يعبر بها متجددة وهي في الأصل مستحدثة من الشعراء أنفسهم فإن من خصائصها التبدل والتغير كلما استجد أسلوب أكثر ملاءمة من سابقه، وعند الاضطرار يبقى الأسلوب التقليدي فترة طويلة لعدم وجود البديل المناسب. اليوم عندما نقول: البارحة ساهر، فإن هذا التعبير لا يصل السامع بإحساس يتوافق مع المعاناة بل يصل وكأنه أمر عادي، بخلاف ما كان عليه بالأمس والزمن القديم فقد كان مفهوما يترجم إحساس القائل بأنه يعاني من شيء بمجرد ذكر السهر، لأن الغالبية من الناس اليوم يسهرون ولا ينامون إلا بعد منتصف الليل إن لم يكن بعد طلوع الشمس. حتى أن كلمة السهر بدأت تحذف من قواميس الاستخدام في زماننا هذا لعدم استعمالها والحاجة لها في التعبير فالواقع نفسه مسح الكلمة من القاموس الشعبي. الشاعر الأول في زمن الهجوع الليلي، وفق في اختيار مصطلح السهر لكي يعبر بواسطته عن مشاعر وأحاسيس كثيرة، في وقت لم يكن يسهر في زمن مضى سوى مهموم أو من ضاعت أرياه، ومن هو مريض موجوع، أو منشغل البال على أمر له أهميته. زمن كان مجرد سماع الصوت من أنين أو حركة أو شكاية خفية فإن المجتمع يفزعه ذلك ويهتم من الأمر ويتفاعل مع الوضع، لأن طبيعة ما حولهم هو السكون. هكذا تعود المجتمع القديم، والموقف التالي يتبين منه ذلك، فقد كان أحدهم قد أصيبت إحدى أصابع يده بمرض يسمونه (أبو ماصخ) ومن مسبباته جرح بين الظفر واللحم أو جسم غريب دخل بينهما أو نتيجة القص للظفر بشكل غير موفق وتمكن من اللحم، فيتورم رأس الأصبع ويبدأ بنشر الألم الشديد في المكان حتى إن المريض لا يهنأ بنوم ولا يهدأ له بال. أحدهم أصيب بهذا المرض وصار طول الليل يئن في بيته ويقوم ويقعد ويشعل السراج ويطفؤه ويحدث حركة حتى بان الفجر وحانت صلاة الصبح، ففكر في الأمر وكيف يقول لجاره الذي سوف يسأله: ما الذي جعلك طول الليل تشكو وتئن وتسهر؟. ثم سأل نفسه هل أقول له أن السبب هو رأس الأصبع هذه؟، إنه جواب غير مقنع، لا يمكن أن يصدقني جاري أن سبب السهر هو طرف الأصبع هذا، سيصفني بالجزع من أمر بسيط. فقرر أن يلف عينه ويغطيها ويدعي مرضها لكي يكون عذره مقبولا، ثم لفها وخرج لصلاة الصبح. وبالفعل قابله جاره كما توقع فقال له: ما الذي أسهرك يا جاري ليلة البارحة؟ والله إن سهرك وصوتك وأنينك وعدم ارتياحك يشبه من أصابه (أبو ماصخ). فقال وهو مندهش: أبو ماصخ هو هذا الذي أصاب أصبعي فهل فيه ألم تعرفونه؟. قال: نعم، إنه مؤلم لا يرتاح من أصيب به ولا ينام. فقال: كنت أبحث عن عذر أمامك حتى لا تظن بأني جزوع إلى هذه الدرجة. إذا السهر لم يكن في الماضي مألوفا ولا معروفا ولا يحدث من أجل فراغ ولهو، وما كان عادة يعتادها الناس كما هم اليوم. لهذا كان توظيف المفردة من شاعر الأمس موفقا لكن لا يفترض أن تبقى صالحة للاستعمال لأن تاريخها يوشك على الانتهاء. يقول الشاعر: جيتك أجر خطاي عاني ومنضام جيتك وجسمي دم الاوهام مله اسهر طوال الليل صاحي ولا انام اكف سيف الهم وارجع واسله احيان اقول العمر باقي لقدام واحيان اقول العمر ضيعت كله العمر كله هم وجروح واوهام ضيقه وحزن وغم دقه وجله حتى السوالف صارت سموم والغام ماعاد يعرف قلب الاحزان خله جرح من الحاضر وجرح من العام هم وألم و الفين عله وعله ويقول شاعر آخر: اسهر طوال الليل والعالم رقود وأعيش في ذكرى ليالٍ مضني ويقول الشاعر: نواف الناصر البارحه صدري به الهم مكنون اسهر بليل وليل الاحزان طالي ماغير ابدّل حالة الضيق بالهون وفكري بذهني للوساويس شالي جريت صوت الحزن والقلب مطعون كني على ظهر البسيطه لحالي والفجر بيّن واكثر الناس يدعون ربٍ كبيرٍ مايرد السؤالي صليت فرضي مع عبادٍ يصلون ودعيت رب البيت يستر خمالي ويقول الشاعر : صالح الصالح البارحه ساهر والنوم ماجاني واخيل برق ٍ يلوح وهلت مزونه برق ٍ له ازود من العامين ماباني ولا تكسر ظلام الليل من دونه ويقول الشاعر : عبدالله لويحان البارحة ما هملج الطرف بنعاس ما فاض من نجم عيوني تخيله لا باس يا عيني على السهر لاباس على وليف فات ما القى مثيله العشرة اللي ما توثق على ساس تطيح لو صارت حصون طويلة يا ونتي منها المعاليق يباس صبري قضى ما باقي الا قليله من يتبع المقفي مرده بالافلاس مثل الذي بالقيظ يدفق صميله ويقول الشاعر فهد المفرج البارحه ساهر ماغمضت عيني وشلون ابرقد وانا عيني شقاويه اليا تذكرت بنتي فرحة سنيني هلت دموعي على الخدين جبريه بين الدكاتر تصوت لي وتدعيني لبيه ياقلب أبوك اللي طفى ضيه وجل الشعراء يتمسكون بمصطلح السهر كمفردة تجبر حتى الآن على إيصال المعاني وتنقل الأحاسيس والمشاعر ويطلب منها المزيد والاستمرار في العطاء، وتأتي عادة في مقدمة القصائد لأهميتها لديهم وإصرارا منهم على أن تبقى كما كانت معبرا لكنها مع الوقت صارت مستهلكة. قد يبقى مصطلح السهر يحتفظ بمكانته مجبرا كمعبر وحيد يوصل كثيرا من الأحاسيس المفرحة والمسعدة والمبكية، والموجعة وكل ما يوصف بالمعاناة حتى يوجد الشعراء المعاصرون بديلا عنه. ولعل الإصرار على التمسك بالتعبير من خلال مفردة السهر رغم كونها من الأسلوب التقليدي الذي أوجده الشعراء في عصر مضى، ونجح معهم ناتج عن قوة تأثير الماضي على الحاضر وهيمنته على العديد من المفردات وفرضها على الشاعر المعاصر، وما يشفع لمثل هذا الانسياق والتقليد أن ثقافة التلقي اليوم تعد امتدادا هي أيضا للأسلوب نفسه الذي يتم التلقي بها بالأمس متأثرة بالنهج نفسه غير منفكة عنه، وجل مواصفات الأسلوب وقد تقبل المتلقي المعاصر ذلك التعبير بالسهر على أنه معاناة سيرا مع الذائقة العامة وعدم الرغبة في الوقوف عنده بقصد التغيير، إلا أن المصطلح خف تأثيره شئنا أم أبينا، ولم يعد مقنعاً بالشكل السابق أو مماثلا لتأثيره بالأمس، ذلك لأن المتلقي اليوم وكذلك الشاعر هو نفسه يسهر طول الليل في مشاهدة ما تعرضه الشاشات من أخبار ومعلومات واستطلاعات عالمية، أو في علم وردية ليلية ويعيش في مدن ساهرة طوال الليل وكأنها في نهار، وبالتالي فسهر الشاعر ليس بمستغرب فهو أيضا واحد من الناس المرافقين لهم في السهر من دون أن يتعذبوا مثله، ولكي يتميز عنهم لابد له من تعبير آخر ينفرد به غير كلمة السهر، ويثبت بواسطته أنه مختلف عنهم وعليه أن يأتي بجديد يحل محل الكلمة (السهر) فلم تعد صالحة أكثر مما صلحت، وبهذا يوشك أن يكون تاريخ صلاحيتها كمعبرة عن المعاناة قد انتهت.