- ليلى حسن قرشي - 62 صفحة من القطع المتوسط يقولون عن ابن الوز إنه عوام يجدف بساقيه في البحيرة أو البحر أو النهر كما لو كان يمشي على ظهر اليابسة. ويقولون أيضاً «ومن يشابه أباه فما ظلم» وجه الشبه هنا قد يكون في صورة الشكل.. أو في سريرة الفعل.. أو في موهبة النثر أو الشعر. شاعرتنا ليلى جدفت في بحر الشعر بريشتها وقلمها دون أن تغرق أو تشرق.. تماماً كما جدف والدها الغالي الراحل حسن القرشي.. فأجادت وأعادت إلى ذاكرتنا معطياته الشعرية الإبداعية.. بداية من ديوانها الأنيق طباعة وانطباعاً تحدثت عن الحب والحضارة قائلة: حب ليلى يتلاشى في متاهات الحضارة أين ليلى والعشيات الحيارى؟ أين ما كان يسمى بالجنون في متاهات العيون؟ لقد رسمت لنا إجاباتها ألوان أطياف محبة ابتساماتها حزينة تغمر لحظاتها حيناً بعد أن ذابت فيها الحب وتلاشى الحنين.. إنها تتساءل في حيرة: كيف ضاع الحب في العين وتاه؟ كبريق يسحر الكون رؤاه.. ثم يمضي يسرق الأحلام منها والحياة. أبداً يا شاعرتنا الحب نحن أداة ضياعه في كل المواسم لأننا لا نحسن توظيف رسالته.. في الشتاء والصيف وما بينهما ضيعنا الحب كما ضيعنا اللين على حد قول الشاعر.. ما الهوى يا قيس؟ ما كانت أصوله؟ إننا نهوى ولكن بالكلام فالهوى في عصرنا صار مطلب. أو لصفقات.. ومآرب لم يعد للروح والإحساس مذهب.. تساؤلات شاعرتنا أعطت الإجابة عليها دون تدخل. «نداء المدى» محطتنا الثانية.. بعمق الأنين الذي يحتويني أفكر فيك بسهدي ووجدي ونار حنيني أفكر فيك إنها تستعيد ذكريات الماضي وقد اجتاحت الرؤى والطيوف بكل ما فيها من رعود ووعود وأخيلة دون أن تحجب عن قلبها آفاق حبها.. ونداءها بعيد المدى. الصوت والصدى مجتمعين لأنها وفية للذكرى. «أحلى الأخبار» هذا العنوان يثير ظنوني.. فما عهدت حلاوة في خبر.. وأنها شقاوة وخطر.. ولكن شاعرتنا ليلى أعطتني أملاً في حلاوة لم أتعرف عليها بعد.. إنها تقول: لو كانت لغة الحب أن تختصر الكلمات ويضيع الإحساس بوادي الصمت لصرخت بوجه الحزن. ونفضت غبار الماضي وأضاءت عيون حبيبي القادم من فجر الأحلام ولقلت أحبك ألفا. ألفا. «لو» يا شاعرتنا لا تبني بيتاً لحب.. ولا كوخاً ولا عشاً.. إنها مجرد مفردة تمني خادعة.. «الأمل المخنوق» تقول عنه ليلى القرشي: لا تُقيد مني القلب.. فقلبي اليوم مات ولمَ القيد لمضني قد سلته الأمنيات عاف كل الناس.. بل عاف الحياة فلمَ القيد لقلب مثقل بالترهات.. سؤالان يفتقران إلى علامات استفهام؟ وربما أيضاً علامات تعجب!.. ولتساؤلاتها بقية أنها لا ترغب البوح بها لا عن يومها.. لا عن أحسها.. ولا عن ذكرياتها بعد أن خاتلها الوهم فرفضته لأنه مدمر.. إن ضناني الشوق فالنجوى لتلك الأمسيات أو بكت عيناي إن عز الأساة فترفق بمعنى ضاع في بحر هواك رحلت أحلامه حين طوتها مقلتاك هكذا ألعوبة العشق متأرجحة ودائماً بين الحنين والأنين والشجن.. بين الصد. والرد.. نهاية بالفراق والطلاق.. إننا نتسلى بالحب.. وهو يضحك علينا ويقهقه وهو يشهد الدموع ساخنة ورخيصة تتدفق من مآقينا لأنه حب مخنوق لا يقدر على التنفس كي يحيا. نتجاوز بعض عناوين الديوان «تكلم» و»نجم أفل» و»صمت» لأن ظلال الحزن يخيم عليها بكثافة. ونتوقف سوياً عنه «بعيداً عن العاطفة». حذار انبهار العواطف حذار نمو المحبة تحت سيوف المخاطر. أطمئن شاعرتنا أن المحبة أبداً لا تنمو مع رائحة الخطر.. الخطر يقتل الشهية لكل الأشياء بما فيها العاطفة لأنه عاصفة تجتث الأخضر واليابس ولا تبقي على أثر.. شاعرتنا المتجلية تحذر.. وتحذر.. وهذا مظهر وعي ويقظة.. إنها تحذر من انهيار العواطف وعمق العيون الساهرة وكلام الجفون وطيف المغادر وهتاف دموع المحاجر.. ماذا أبقت لنا كي لا تحاذر..؟! أنا لا أقول إنني سأنسى ولكن أحاول ولكن أقول حذار محبة من كل غادر.. وصايا.. معقولة.. ومقبولة.. ولكن علينا أن لا ننسى أن الحب أعمى.. والمتيمون لا يبصرون ولا يحذرون.. «صوتك» عنوان جديد: صوتك الدافئ عاد بعد أيام البعاد كانت اللحظة فيها مثل هجر ورماد بُعدك الدمع يجود. بعدك الخوف يعود أينها تلك الوعود.. لم تكن إلا صدود أبيات عتب متأرجحة بين إياب وعودة اللحظة بينهما توشك على الاشتعال.. نهايتها مألوفة معروفة.. عودة دافئة بلت ظمأ الفؤاد.. المشهد خاطف.. والصورة مخنوقة الأفق.. ومن «الصوت» إلى «السراب» تأخذنا متاهة الدرب نحو ضياع الحب من جديد. يا حبيب القلب قد أغريتُ قلبي بالأماني ومضى العمر وئيد الخطو خفاق الجنان هكذا تأتي البوابة. وهكذا تبدو النهاية.. وما بينهما مجرد قصة يكمن في تفاصيلها شيطان الحب أو قبطان الحب. أملها ضاع.. وحبها وحنانها يصهره الهجر والهجير.. حتى جياد الشوق مخنوقة بعنانها.. ما تبقى من السراب مجرد دمعة تترقرق متساقطة من عينها.. ومعاناة ومداراة جرح.. وطرح سؤال: وأداري الجرح بالجرح وأغفو بهواني فمتى ألقاك يا حلمي وأطياف الأماني سؤال إجابته سرابية.. ونهايته علامة استفهام؟ «ابتعد عني قليلاً» هكذا قالت شاعرتنا.. لماذا؟! كن شعاعاً.. كن بريقاً.. وابتعد عني قليلاً لتكن طيفاً جميلاً ساهراً.. أشتاق وعدك أعطت له مواصفات وصفات الحلم.. فهل يقوى على تحقيق أمنيتها؟ لا أظن.. لقد فرضت عليه أن يكون باكياً كي تشتكيه. محالا.. ظلالاً ترتجيه في خيالها دون قرب منه ولا وصال.. أكثر من هذا تريده رحيقاً لا يذاق. وحنيناً لا يطاق.. شروط تعجيز لا يقوى على ترجمتها واله.. لأن ما استبقته لنفسها من حبها له مجرد ذكريات هي أحلى الذكريات. هي أحلى الأمنيات فابتعد عني قليلاً.. لتكن طيفاً جميلاً اكتفت من حلمها بطيفها.. لا بضيفها.. وهي حرة.. حبها الجديد خارج دائرة الحلم.. إنه العلم بعينه.. «يارا ابنتها».. أنا منذ أنجبتك يارا عزفت في قلبي قيثارة ووجيب القلب غدا لغة تكتب ألحانا.. أشعارا استسهلت في حياتها كل شيء من أجل فلذة كبدها. مشاق الحمل وعذاباته.. نظرة حانية منها إلى محياها. إلى عينيها.. إلى شعرها الأسود تحجب عنها سواد الليل. وصخب النهار.. إنه الحب الذي لا ضياع.. ولا شك ولا سرابية فيه.. إنه حب الحقيقة النابضة بالحياة. «دمي الخاطر» مقطوعة تتقاطع فيها الأشواق والأشواك: يسألني منبع إلهامي عما أشدوه بأشعاري نثراً أو شعراً يا عمري لك وحدك حبي وأيامي كل هذا عذب له مذاق الماء الزلال في فم عطشان.. هكذا لمسته.. أما هي فإنه لا يخلو من نبرة عذاب على حد قولها: ما تقرأ يا روحي شعراً بل سيل الدمع بأجفاني سطراً يغفو لتراك الروح برؤاه جدد أحزاني وتذكره إن كان قد نسي: تاهت ذاكرتي ودوائي ما بين الحاضر والآتي أتراك نسيت ليالينا ونسيم الطائف وادينا ما بال الطائف بات رؤى ما عاد الأنس ينادينا الخطاب الشعري من جانب واحد.. يبدو أنه لم يقرأ بوحها.. ولم يلمح سيل الدموع من جفنيها.. لعله له عذراً وهي تلومه. وحي خاطرها هذه المرة ساقها إلى القدر: وهتفت صارخة: - لا. لا تعديه فالوعد يشقي قلبه أن تخلفيه قالت: - سأودعه ولن أخشى الملامة فالوعد عندي مبدأ أحمي زمامه وشعرت أن حدثها صدق. وأغرقني ابتسامه وأتيت يوماً سائلاً عن وعدها وبريق عينيها يواري دمعها قالت: هو القدر الذي تُجنى ثماره الشطر الأول وردت فيه مفردة «لا تعديه» والصحيح «لا توعديه حوار بين قلت. وقالت.. وحكاية موعد ومبدأ.. وإغراء ابتسامة.. ثم لقاء ودموع متحجرة في مآقيها.. والنهاية قدر.. وثمر.. لا تعليق على ما لا أشهد.. شاعرتنا ليلى أخذتها الغربة.. إلى أين؟ وكيف؟ ومتى؟ وطئت خطواتي المجهول من أقصى الشرق لأقصى الغرب هدبا من نار الأشواق لينام السهر المشتاق وفجأة نصطدم بحائط المفاجأة.. يا أملي الضائع.. يا حزني الأبدي يا أغرب حب يرتاح بأحلامي.. ما علاقة الرحلة بأملها الضائع.. هل أن فارس حلمها ضائع تبحث عنه ولمّا تجده؟ مجرد سؤال: ما كانت تمضي اللحظات إلا كنسائم صيف.. ويسود الصمت! خير إن شاء الله: ويخيم في العينين ظلام. وشتاء البعد أبرد وأشد من كل شتاء. خطواتي ترسم أشجاني.. كرسائل يطويها النسيان.. يبدو أن الأحلام ساحت في أبعاد السياحة المضنية. نتجاوز بعضاً بعض عناوين الديوان بحثاً عن فكرة جديدة.. «إحساس» عنوان استوقفني: قمة الإحساس في الروح نغم بات يسري في عروقي وانطلاقات الرؤى فيك حُلُم تاه في دنياه فكري بشرودي كلماتي. أغنياتي. أمنياتي فيك تحلو بالأمل مع كل هذا الشدو الجميل هل يتحقق الأمل.. كعادة شاعرتنا المتألقة ما إن نفرح حتى نصطدم بترح.. يا حبيبي قد أسرت الشوق والآمال في دنيا هواك ومضى عمري سراباً لجفاك.. لست غضبى من غياب. غضبى.. إذاً مماذا؟! فالهوى منك كأغصان الورود كلها شوك.. وفيها ريح جود فابتعد ما شئت. أو شاء القدر فأنا بعد أناديكَ حبيبي. وأرى وجهك في كل الصور حسناً.. كانت النهاية حسنة.. وأخيراً مع رثائيته لأبيها الصديق الراحل الشاعر حسن قرشي: أشذاء لحنك يا أبي قد تاه فيها موعدي فلكم سموت بفكرة عذبت فيها موردي ولكم رويت بفيض عذ بك بالمعاني مشربي ما بال شجوك يا حبيبي قد ضاع في صمت الصدى الصمت يطبق في حضورك والفصاحة تبتدي «قد» في الشطر ما قبل الأخير زائدة.. أخيراً أقول لشاعرتنا المتألقة ليلى حسن القرشي العذبة بعباراتها العذبة بعبراتها: الحب يصنعه قلبان ذكيان يدركان أن الحياة ليست مجرد عاطفة.. بل محكومة بتوازنات عقل وإدراك تحكمها ثوابت الصدق والإيثار.. والتضحية.. إن الذين يشتكون الحب هم الذين عايشوه وعاشوه وأدركوا قيمة الحب..