إذا ما انطلقنا من قيمة الحياة والأمن ورغبة التصحيح الصادقة لما نراه اليوم من هدرالأنفس في بلدان عربية كثيرة، فإن تصريح خادم الحرمين حفظه الله ورعاه بضرورة تغليظ العقوبة على المغررين بالشباب والأطفال بدعوى الجهاد أضاف ثقلاً توعوياً يتجاوز الأبعاد المفهومية القريبة للإرهاب الدموي إلى جذور الفكر المؤسس للإرهاب، بشمولية تسبر أغوار الوعي في مساحاته المظلمة الموغلة في المسكوت عنه، وما طال العبث في أجوائه ومنطلقاته، ليهبها بعداً نورانياً يضيء مساحات المناطق المعتمة من عمر ثقافة طالما ناهضت الإنسان والحياة فاستمرأت الظلم والبغي والتضليل والخبث، وأبدلت وهج الحياة بصناعة الموت، وعمارة الدنيا بهدم قداستها، ثقافة لازالت تتكالب على الوهم، وأي وهم! وهم السلطة والغزو والسيطرة على الآخرين وسلب أمنهم ومعاشهم وبلدانهم، وتعيش أحلام تحقيق الثروات بتسخير النزوات البدائية في أشد صورها بهيمية وهمجية. لقد طالب ملكنا حفظه الله بتغليظ الحكم على المغررين- الذين يمارسون التحريض على العنف باسم الدين، فيزجون بالشباب في أتون الحروب- ليتجاوز الحكم السجن، "فهم غرروا بأطفالنا، فمنهم من قتل، ومنهم من حبس، الله يكفينا شرهم" فالحكم لابد أن يناسب حجم إرهاب سعيهم في العقول فساداً، وقتلهم الأبرياء بغير حق.. إذاً لا يصح التقاعس إزاء الفكر الدموي الإرهابي بنقده في حدود التخطئة والتجاوز الشحيح البارد عن جرائمه الوحشية في حق المغرر بهم، بل بعقوبة رادعة للمتورطين زاجرة للمتعاطفين.. فالإرهاب الفكري هو القائد الأعلى لتلك النفوس التائهة الضائعة التي اتبعته فأهلكت نفسها في ميادين الصراعات والحروب. ولئن سلط إرهابيو الفكر صفاتهم المتجسدة في الكره، التعصب، الأثرة، العنصرية، الظلامية، التكبر،التسلط،الاستبداد والوحشية، فإنها تلتحف فيهم بخلق فاسد جبان ينادي بالزحف من خلف حجاب، ويدفع بالمغرر بهم قرابين على مذابح حرائقهم الفكرية والأخلاقية الهوجاء.. لا يمكن لأحد أن يظن نفسه إنساناً، وهو إرهابي دموي يبيح قتل الناس وتصفيتهم، ولكن من المؤكد أننا لا نثق أيضا بأننا في حالة طهرانية كاملة، فالإنسان يجتمع أو يبتعد/ معهم وعنهم بمقدار ما يتبرأ من صفاتهم قولاً وعملاً ومسلكاً وقبل ذلك وبعده اعتقاداً ونهجاً، وتبقى الصفات المدرجة ضمن التأهيل لقابلية العنف أو الإرهاب الفكري مخاتلة لنا وإن كانت واضحة لسوانا، يراها بياناً وننكرها نفاقاً أو ادعاءً، الصفات التي تراكمت عليها السنون فغابت ليس فقط عن تقديرنا بل عن وعينا وحسنا بأنها لبنات التأسيس الفكري الإرهابي. الحقيقة؛أنه لا يمكن أن يفصل أحد في أجواء عاشت على مقولات الإرهابيين فيظن نفسه خالياً تماماً من تأثيرها، فالجو المشبع بالإرهاب له تأثير يتحد -لا إرادياً- بالمشاعر على أقل تقدير، وبالسلوك المسخر لخدمة الفكر التدميري على أعلى مستوى، وبين المستويين يعيش أصحاب الثقافة التراكمية الإرهاب المكشوف والمندس من حيث نشعر ولا نشعر.. فالفصل بين الثقافة ومتلقيها- في بيئة لها مع الإرهاب علاقة انتماء ملتبسة بالدين- مستحيل، فهؤلاء المغرّرون لم ينزلوا علينا وعلى بلادنا من السماء بل هم نتيجة وعي تراكمي مأزوم مع الإنسان؛ الإنسان بإطلاقه، يناصبون براءة الأبرياء والمسالمين العداء بجعل حياتهم مرهونة على كف عفريت، ومأسورة لوهم زعامة عالمية فارغة إلا من مفاهيم الاستبداد والسلطة الأممية المناهضة لأقدس حقوق الإنسان؛حريته. ثقافة قال عنها الفيلسوف المجنون نيتشة القتال بين الإنسان الأعلى "السوبرمان" وبين السواد " المهلهل المتهافت" من عامة الناس، ثقافة من يرى أن أنبل عمل هو شن الحروب" فيجب أن نعد الرجل للحرب والمرأة للترويح عن المحاربين، أما ما عدا ذلك فمحق وضلال" كتاب عظماء الفلاسفة في الشرق والغرب" لهنري توماس. ثقافة تسلطن همجيتها بالعزف على وترين؛ الاستبداد التوسعي، ونيل الأوطار الجنسية. فدواعي هذه الهمجية تتطلع لذات المساعي؛ غزو واستبداد وامرأة، سيل شهوات مادية، بعض روادها يؤجل النساء للآخرة ليظفر بقتل نفس لقاء سبعين حورية كلّ منهن تنتظر دورها لإسعاده كما يذكر أحد الإرهابيين الكومبارس المهرجين وهو يصف الحوريات بكلام تفسخي في تفاصيل مغامراته الجسدية في جمع من الحوريات، وبشبقية منفلتة هوجاء يقول بنفسه عنها إنها لا تنتهي ولا تفتر أبداً!! ويتبارى المغررون الإرهابيون في جنوح شبقهم الاستبدادي المتواري في غي الدعوة للجهاد الكاذب.. فيفتك سحر وصف الحوريات بشباب غرر بهم فدفعوا أرواحهم في أفغانستان والعراق، وسورية الآن، ومنهم من خرج بكارثة جهاد المناكحة للمستعجلين. لغات المستبدين والقتلة وعبدة الشبق الدموي واحدة وإن اختلفت مقومات الأخيلة المتراقصة خلف الأطماع الشبقية الماجنة جسداً الهابطة إنساناً وقيماً. مقولة نيتشة تختصر رؤية إرهابيي الفكر في الدعوة لجهادهم واستنفار السواد المهلهل المتهافت "العامة"، لحساب الإنسان الأعلى" السوبرمان، أي الفئة التي ترى من حقها أن تحكم العالم وتستعبده، ويناضل نيتشة عن رأيه بأنه وصف للحقيقة صريح وجاف، الذي هو تنازع الأبدي من أجل البقاء والغريزة التي لا تخمد أو تموت سعياً وراء القوة والسيطرة، فيجب أن يرتفع إلى الذرى أولئك الذين هم أقدر الناس على أن يجعلوا الآخرين موطئاً لأقدامهم."الكتاب السابق". هذا الطموح؛ طموح الإنسان الأعلى هو المعيار الأخلاقي للعالم من وجهة نظر نيتشة، والفلسفة التي كرست لدعم الرأي القائل: إن القوة هي الحق الوحيد." فكل ما هو صالح للسيد صالح للعالم" وإن أفناهم واستعبدهم وأذلهم ومحاهم عن وجه الأرض.. والدعوة للقتل بذريعة الجهاد هي إحدى هذه الهلوسات التاريخية المزمنة المتراقصة بشبقية وهم السلطة والاستباحة الهمجية المنتشية بذكرى سلاطين التاريخ المجرمين وإن تقدس ذكرهم. شعور الاستبداد الهمجي الذي يحسب القتل جهاداً يذهب لأبعد مداه بالقتل لأجل المذهبية، والرغبة في تصفية المختلف في دائرته الأضيق، وهو- للأسف- ما نراه اليوم في بلدان ما يسمى الربيع العربي، فإما حرباً مذهبية حامية الوطيس، وإما حرباً طويلة المدى لجماعة تريد فرض نفسها على شعب بأكمله، وما ميادين البلدان العربية اليوم إلا أكبر حلبة صراع سياسي لأحزاب تصارع بعضها لتعتلي عرش التحكم والسلطة باسم الدين، فكلهم مجاهدون!! قبل أن يطلقوا مدافعهم على بعضهم يصرخون بعالي أصواتهم "الله أكبر"!!.. سورية انعكاس لهذا التغول الهمجي المأساوي، ويتجاهل المكبرون لله التحذير النبوي الواضح" إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". بالطبع، كلما فتح الباب لعبدة الدماء توسعت شوكة مآربهم الممتدة للرغبة بتصفية المختلف وإن كان على دينهم، كما يجب أن يكون"الإنسان الأعلى" هدفه دائماً" أن يصبح أفضل وأكثر شرا،ً وأن يرتد إلى القسوة التي تقوم عليها البهجة والسرور العظيمان عند الإنسان القديم". فمقدار سرورهم يقاس بمقدار القسوة، كما دعا له حديثاً ذلك الإرهابي بقتل أطفال ونساء "الرافضة"، إنه أحد المفتونين بوهم الإنسان الأعلى والأكثر شراً.. ينضح بتأثير الثقافة الدموية التي تملي عليه البهجة والسرور بالقتل، والمضي بدم بارد.. عقول مضطربة مستبدة بجنون العظمة، وبها تمارس نبذ الآخر وإلغاءه وتكفيره واستباحة دمه. ادعى بعض الدعاة ممن تحورت رؤاهم وإن لم تتحول، أنهم أصبحوا دعاة إصلاح ودبجوا البيانات والخطابات الإصلاحية ولم يتكلفوا حتى التراجع عن ماضيهم الإرهابي العنيف ولو بطلب عفو من المجتمع، فلطالما صرخوا في المنابر ليخرج أبناء الناس لساحات الصدام السياسية باسم الجهاد، ووفروا أنفسهم وذويهم للحياة الدنيا التي يمجّونها ويطيلون الحديث عن تفاهتها وحقارة شأنها. إن من يخطئ في حق الله حقه في التراجع ينحصر بينه وبين مولاه، أما من يخطئ في حق الناس فليس من حقه أن يداري تراجعه في قلبه، بل عليه أن ينطلق من شجاعة التراجع عن الخطأ والتبرؤ منه، لكنه تراجع مصلحة تلتقي بزمانها وعندما تتغير الظروف يعود المأفون بنار الإرهاب إلى أتون ظلمه وبغيه.. ولأن من لايستحي يصنع ما يشاء فقد اتهم مُغَرِّرٌ مشهور المملكة بالتقصير مع أبنائها المسجونين في العراق، وهو أشهر الأصوات التي ورطت الشباب بالجهاد هناك!! كثرة المغرر بهم دليل قاطع على تسيد هؤلاء الإرهابيين ساحة التأثير، يقابله ضعف فكري للمغرر بهم، ومتطلبات الأمن الفكري توجب استئناف عملية تحديث منظومة فكرية تربوية إنسانية يستلهم الشباب منها محبة الحرية والخير للعالم، كي لانترك أبناءنا وصغارنا فرائس سهلة للمفتين والأدعياء الذين يبثون على مر الأيام درساً وحيداً هو كره الحياة، وكره الحرية. يقول جون لوك "إن عقلنا لكفيل بهداية الجنس البشري كله- إذا ما استرشد به- إننا ما دمنا متساوين ومستقل بعضنا عن البعض فلا ينبغي أن يضر أحدٌ أحداً في حياته أو صحته أو حريته أو أملاكه.. إن واجبنا المقدس أن يساعد بعضنا بعضاً، لا أن يؤذي بعضنا بعضاً". وآراء لوك السياسية هي امتداد ونتيجة لملاحظاته في الأخلاق، لذا يقدّر بأن"حرية الإنسان سائرة من إبطال المبارزة بين الأفراد إلى إلغاء الحروب بين الدول" بقي القول بأن غيرنا لم يخرج من ثقافة الغزو إلا عندما تلاشت سلطة الكهنوت لصالح الأنسنة بفعل جهود الفلاسفة المتطهرين بكوثر الإنسان ورحيق القيم العليا؛الحرية، العدالة،المساواة، والمحبة، فهل نفيق؟!