الذين قرؤوا تحاليل نقدية عن صلة العرب بالشعر وحبهم له، بأقلام غربية سيجدون أنها تميل في أكثرها أن براعتهم تلك نمت لانعدام البديل الترفيهي. وكان الشعر أقرب إلى إنعاش الحياة الصحراوية وازدهار الفخر والحماسة. وامتزجت تلك المحبة ولم يستطيعوا منها فكاكاً إبان العصر الإسلامي الأموي والعباسي الأول والثاني. حتى اعتبروه في الأندلس نوعاً من الترف والرفاهية والتنعم هذا التحليل لا يخلو من صواب. ولم أجد ما يُناقضه أو يتعارض معه. إن قراءة الشعر الجاهلي قراءة تعمق، وتفهم صحيح، واستيعاب لمعانيه وصوره ومراميه، تكشف لنا صلة هذا الشعر بالبيئة التي نشأ فيها. لكن يقل اهتمام شعراء الجاهلية بحياة الناس وقضاياهم في مجتمعهم. وجملة هذا الشعر تدل دلالة واضحة على انحسار الأغراض الشعرية. وليس من بينها ما يظهر الاهتمام في شؤون حياتهم. ونعني أن علاقة الشعر بالحياة لم تكن وطيدة في العصر الجاهلي، وأن صلة الشعراء بمجتمعهم كانت وثيقة، لكن في حدود ضيقة. وما يجعلني أميل إلى هذا التحليل هو أننا ورثنا الحالة في بدايات عيشنا، هنا في شبه جزيرة العرب. وهو أننا طمعنا في سماع موسيقى وإيقاعات وألحان عندما أُتيحت عبر إذاعة الشرق الأدنى التي كانت الحكومة البريطانية تبثها من قبرص في الخمسينات من القرن الماضي، من أجل غرض سياسي وهو الوقوف ضد الشيوعية ومناصرة حلف بغداد. ولأول مرة يسمع المواطن العربي أغاني لا يهتم بكلماتها. ولأول مرة تأتي الإعلانات التجارية عبر أغانٍ وحناجر ناعمة تُشبه فيروز. وعن أدوية الصداع (أسبرو خلّو رفيقك). وهناك أغنية لفيروز كانت تبدأ ب»يا حلو.. يا حلو ياقمر» وظن الناس لفترة طويلة أنها إعلان لأن الموسيقى أصبحت الجزء المسيطر في الذهنية. وكانت النخبة في تلك السنين تميل إلى الألحان الواردة من مصر، فريد الأطرش، عبدالوهاب ليلى مراد. أما العامة فكانوا نزاعين إلى سماع ألحان من فنون اليمن (يحيى عمر قال قف يازين). وكذلك لم تكن الكلمات تهمهم بقدر الإيقاع الموسيقي. ومن كثرة انصراف الناس عامتهم وخاصتهم إلى اللحن، وتجاهل الكلمات سارت الإذاعة السعودية - الوليدة آنذاك - بالأخذ بالخواطر وقطع الأغنية بالمنتصف إذا كان فيها مفردة «الخمر». فكانوا يقفون أغنية النهر الخالد لعبدالوهاب قبل أن يخل في المقطع الذي يقول: وأغصونٌ تلك أم صبايا * شرِبنَ من خمرة الأصيلِ