فناننا الكبير محمود حلواني واحد من جيل الرواد في تراث الغناء السعودي وغناء الجزيرة العربية ومن جيل الأواسط مثل محمود خان ومحمد علي سندي وعبدالعزيز شحاتة ومحمد باجودة وعلي صائغ وعرفة صالح وعلي شيخ وعمر باعشن وعلي باعشن، وعندما نقول إنهم كانوا سادة للغناء الشعبي فإن للكلمة ألف معنى، لكن معناها الأقوى والأكثر وضوحا أنهم من ارتبطوا بالتراث إلى درجة العمق والجذور وظلوا يعملون بصورة فيها الكثير من التدوير والتدوين لموسيقى وغناء التراث بينما منهم من خرج بشخصيته المستقلة حتى ولو أنها اتكأت على التراث مثل الموسيقار العميد طارق عبدالحكيم وعبدالله محمد وسعد إبراهيم وجميل محمود، وكثيرون غيرهم قدموا شخصياتهم وما هو في دواخلهم من إبداع حتى لو اتكأوا على التراث واغترفوا منه، محمود حلواني فنان كبير قدم أعماله الخاصة وأضاف وهجا لأغنيات التراث وموسيقاها وكان هو وزميله محمود خان الذي سنتناول سيرته قريبا من أول من ذهب بفنه إلى البحرين عندما كانت هي الوحيدة من دول المنطقة التي تسجل وتصنع فيها الاسطوانات الحجر «قبل ظهور الاسطوانة البلاستيكية. كما أنه كان واحدا ممن ملأوا الحياة الفنية في منطقة مكةالمكرمة «الحجاز» لا سيما في الحفلات والمناسبات حيث شارك في الكثير من أفراح الناس بفنه إلى أن جاء دوره في التعاملات الفنية الرسمية عندما ظهرت الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون في العام 1394/ 1974 وشارك في الكثير من الحفلات والمهرجانات وفي الأسابيع الثقافية السعودية في الخارج ومنها في المغرب والجزائر واليمن. وها هو مختصرنا عن حياته الفنية الطويلة التي سجل فيها اسمه واحدا من الكبار.. ومن الأغنيات التي ظل يرددها طوال حياته وعرف بها وعرفت به أكثر مما عرفت من خلال أصحابها كانت: «ألف ألف أنا، والباء بقلبي غصن ربيته وربه ربنا، والتاء تمنيته حبيب القلب يسمر عندنا، والثاء ثبت حبه في قلبي مثل ما في قلبنا، والحاء حلف واقسم بربه وما يمسه غيرنا، والشين شي في شي وشي مخفي وشي شفته أنا ... وهكذا دواليك إلى حرف الياء»، وردد كثيرا من الأغنيات مثل «لا وعينيك» و «عيني لغير جمالكم لاتنظر» «يامن يرى» وغيرها. اسمه محمود معتوق حلواني من مواليد مكةالمكرمة 1939م وتوفي في 15/4/ 1994، بدأ حياته العملية عام 1364ه حيث التحق بوظيفة في البرق والبريد. بدأ حياته الفنية عام 1360ه من حي الرويس في جدة وهو الحي الذي عاش وسكن فيه طوال عمره إلى الوفاة ولازال بعض من أبنائه وأحفاده يسكنونه حيث تعرف على غناء الصيادين في ذلك الوقت والغناء على السمسمية وحفظ أغنيات من التراث والدانات وكان وأحدا من أهم من قدموا لون المجس المكي في الأداء التمهيدي بدون عزف على آلة العود قبل غناء أي من الألوان المعروفة. ثم سافر إلى البحرين وهناك التقى بزملائه الفنانين البحارنة والكويتيين وغيرهم من الخليجيين مثل محمد بن فارس وعبد الله فضالة ومحمد زويد والفنان الكبير عبد اللطيف الكويتي في عام 1363ه وهناك سجل أول اسطوانات له كمطرب. وللراحل محمود حلواني من الأبناء: فهد، بندر، فيصل، أمل، إيمان، أحلام التي شهدت مقدم أول حفيدة لها «سارة» الأسبوع الماضي من ابنها المهندس سعيد فهد دمنهوري الموظف في شركة الحمراني نيسان والذي يقول إنه اختار لها اسم سارة لقدومها بالتزامن مع الأخبار السارة المتعلقة بعودة خادم الحرمين الشريفين من رحلته العلاجية، وآخرهم الدكتور محمد المتخصص في العمود الفقري وأورام المخ والأعصاب، المتخرج من كندا. الانطلاق إلى عالم الفن بدأ محمود حلواني يتعلم العزف على آلة العود على يد المرحوم عمر حسين في العام 1363ه / 1943م وهو من فناني مكة المعروفين في ذلك الوقت وبعدها قام بتسجيل أغنياته على اسطوانات عام 1368ه / 1948م وكانت الاسطوانة مصنوعة من «القار» وكان يصدر اسطواناته باسم مستعار هو «الفنان المحبوب».. في عام 1375 / 1955 سجل أغنية «يا شفر تندا أحمر وخمسة وخمسين» في إشارة لقدوم سيارات الشفر ذات التندة على سقفها موديل 55 ولاقت نجاحا كبيرا على المستويين المخملي والشعبي، ثم التحق بفرقة الفنان طارق عبد الحكيم فكان وزميله الموسيقي محمد الريس من أعلامها واستقل فيما بعد فنانا منفردا وغنى أغاني خاصة به من ألحان طارق عبد الحكيم منها أغنية «أسمر سمير الروح» من كلمات صالح جلال، تلكم الأغنية التي يقول المؤرخون في دنيا الحياة الفنية المحلية إنه اشترك في تلحينها في جلسة واحدة طارق عبدالحكيم والراحل مطلق الذيابي، كما غنى من أشعار لطفي زيني والكاتب الغنائي عبد الرحمن حجازي رحمهما الله وغيرهما.. وفي العام 1384ه / 1964 تقدم للإذاعة رسميا ولأول مرة بأغنية «شفاء» ونشيد آخر في وصف الرياض ثم تقدم لوظيفة عازف «للمديرية العامة للإذاعة والنشر» آنذاك، وتم توظيفه على المرتبة التاسعة براتب 300ريال، وبدأ يغني مع فرقة الإذاعة الموسيقية في العام نفسه. ثم قام بعدة رحلات للخارج في الخليج العربي وأهمها الرحلة إلى البحرين. يعتز الفنان الراحل بمشاركته في الأسبوع الثقافي السعودي في الجزائر وبرحلته الفنية الأولى إلى القاهرة التي قابل فيها الفنان الراحل الأستاذ محمد عبد الوهاب الذي أثنى عليه.. من أهم أغانيه: الألفبائية، يا أهل الهوى ما ترحموني، شفاء، يا شفر تندة، يا مستجيب للداعي، دع ما سوى الله واسأل. وغنى كثيرا من أغنيات الفنان اليمني الكبير إبراهيم محمد الماس وغنى للفنان عمر محفوظ غابة وللفنان أحمد عبيد قعطبي رحمهم الله. ويعتز برحلته الفنية إلى اليمن مع كبار الفنانين السعوديين في الأسبوع الثقافي السعودي هناك مثل محمد عبده حتى أنه سعد بتكريم خاص من الرئيس اليمني الراحل إبراهيم الحمدي عبارة عن خنجر «جنبية».. وكانت «عكاظ» قد التقت به فور عودته من تلك الرحلة في العام 1976 / 1977 ليتحدث عن تلك الرحلة، كما أن «عكاظ» كانت برفقته طوال بقائه على السرير الأبيض في المستشفى قبل وفاته وهي الحال التي أدخل فيها بعد أن تعرض في بيته ومحله في حي الرويس إلى اعتداء بآلة حادة من لص هاجمه وهو نائم. من زملاء الدرب عند وفاته كتب زميله الصحافي والناقد محمد رجب يرثي صديقه وزميل مشوار الفن والإعلام محمود حلواني يقول: أتذكر أن فناننا الكبير طبع من إحدى أغنياته مليون نسخة وهي أغنية «الالفبائية» أو التي كان يسميها «الألفية»، وغيرها من الأغنيات الناجحة التي اشتهر بها ولقد تميز الفنان الراحل الحلواني بتقديم المجسات في المناسبات وفاق بها بعض الفنانين حديثي التجربة لتمكنه من الألوان الغنائية التراثية التي قلما يجيدها أحد مثله ولقد شاهدت وشاهد غيري مدى ما يتمتع به الحلواني من شعبية في الحفل التكريمي الذي أقامته له جمعية الثقافة والفنون.. ومدى ما كان متألقا فيه.. وبالرغم من أن الأغنيات التي قدمها آنذاك كانت أغنيات شعبية معروفة إلا أن الناس كانوا يطربون لصدحه بها ... وفي الآونة التي توقف فيها عن تقديم ألوانه الغنائية تفرغ للمشاركة في غناء المجسات في مناسبات الأفراح ومع أنه كان يتمتع بحضور ذهني تجلى في متابعة جيدة لكل ما يقدم من ألوان غنائية في الساحة، ويحتج من وقت إلى آخر على الفنانين الشباب الذين كانوا يقتبسون من بعض ألوان التراث ويسعون دون قصد إلى تشويهه دون ذكر أصحابه أو الإشارة إليهم.. وكثيرا ما كان رحمه الله يتصل ببعض الصحف أو ممن لهم صلة بالفن الغنائي مبديا اعتراضه على بعض الفنانين الذين يسعون إلى تشويه التراث ويطالب بإيقافهم. وللفنان الراحل آراؤه المختلفة في كثير من نجوم الفن والغناء تحديدا، فمع زميلنا الإعلامي والملحن توفيق حلواني كانت هذه «الفضفضة» التي استخلصها منه كان منها: البداية كانت تميل إلى الطرافة وهي أشبه ما تكون بقصة صاغها خيال خصب لكاتب متمكن، ففي بداية 1364ه كان الحلواني جالسا عند فنان يسمى عمر حسين يرحمه الله فحضر أحد عازفي آلة الكمان لأنه لا يملك ثمن إفطاره فاشتراها منه بمبلغ «11» ريالا كان يحتفظ بها من بيع «فوط» الحج. بدأت رحلة التعليم وصار الشاب الموهوب يدندن بعشوائية وبدون «دوزان» وأصوات غريبة مزعجة تخرج عن الآلة الحنونة فعرض على الفنان عمر حسين أمره وطلب منه أن يعزف أمامه وبعد سماعه للحركات العشوائية انطلق في ضحكة عالية قائلا: كنت أظن يا ابني أنك تعرف تعزف وبس.. ما أعلم بأنك فنان كبير!. تعلق قلب المرحوم الفنان محمود حلواني بالمأثورات القديمة من الأغاني بعد أن أجاد العزف على آلة العود وكانت عبارة عن توشيحات جماعية من ألوان «يماني الكف» والصهبة.. وصار يعزفها على آلة العود بكل إتقان ثم خرج إلى الحفلات الخاصة ليمتع الجمهور وهو يردد بصوته العذب «بات ساجي الطرف» من أغاني إبراهيم محمد الماس وشعر ابن النحاس، وكان في تلك الفترة غيره من الفنانين القدامى مثل حسن جاوا وسعيد أبو خشبة وغيرهما من كبار أهل الطرب الأصيل وكانت المنافسة تدور في حفظ المأثورات من الأغنيات وعلى رأسها «يا عروس الروض ياذات الجناح يا حمامة» التي كان يجيدها حسن جاوا بعد أن ينطلق بصوته القوي مرددا مجس «انت إن تعنى بحبي كفاني» فأعجب الحلواني بصوت حسن جاوا وأدائه في الجلسات وصارت منافسة على مستوى الصوت القوي والنغمات المتوافقة فمن يبدأ بنغمة الرصد لا بد أن يعود إلى «مشقه» بعد أن يمر على بحور النغم حسب قدراته في الدخول والخروج. انكشف الستار وخرج المرحوم الحلواني يغني علانية فسجل أول اسطوانة له من كلمات الشاعر جابر رزق «الالفبائية» وانتشرت الأغنية بسرعة بين الفنانين وصار يرددها في الحفلات الفنان حسن جاوا وسعيد أبو خشبة وعمر باعشن وفهد أبو حميدي ونالت إعجاب الجماهير وإقبالهم عليها ولا تزال ناجحة وتسكن في القلوب ولها عشاقها ومتذوقوها. والفنان الراحل كان مثقلا بكل ما هو تراثي وطربي جميل ومهموما بتراث الأغنية العربية، وشغوفا بمحبة الغناء الأصيل والدفاع عن العبث به أو الإساءة إليه .. إن محمود حلواني جمعتني به لقاءات عدة في حياته لمست منه افختاره الكبير بمشاركاته في الأسابيع الثقافية السعودية في اليمن والجزائر وكان يباهي ب «جنبية» منحه إياها الرئيس اليمني الراحل إبراهيم الحمدي وأجدها معلقة على جدران مكتبه في بيته بحي الرويس. وفي محمود حلواني قال الناقد والمؤرخ الفني هاني فيروزي رحمه الله في قراءة لمحمود حلواني وفنه وإذا ما استعرضنا تاريخ الأغنية السعودية المعاصرة نجده ممن احتل أول القائمة من أوائل الذين ضحوا بكل شيء من أجل الأغنية ويتزامن في مشواره الفني مع الموسيقار طارق عبد الحكيم والفوارق جاءت نتيجة التحصيل العلمي بينهما، لكن هذا الفنان «حلواني» لا يغفل دوره مهما كان ولا ينكر عطاؤه وإخلاصه لفنه فهو بلا شك من رواد الأغنية السعودية المعاصرة وإن كانت هناك علامات قد استوقفت ذلك العطاء أو ربما الظروف هي التي فرضت عليه نوعية العطاء ... إلى أن يقول: كلما تذكرتك أستعيد ذلك الحديث الطويل وأحاول ربط الصور وضبط التصور لتلك الأيام التي سمعت بها والتي عشتها أنت بالطول وبالعرض وأحاول تحليلها مع الأيام الأولى التي رأيتك فيها بمنزلنا يوم دعا والدي بعض الأصدقاء فكنت ممن حضر الدعوة إلى جانب بقية الفنانين فرحت بك كثيرا وحاولت أن اهتم بك لإعجابي الكبير بك وبفنك. يومها كنت أنا في بداية تكوين الرؤية الفنية ويومها كنت أنت علما من أعلام الغناء في بلادنا وكنت تحظى باحترام وتقدير الكثيرين من عشاق فنك وغنائك، وكم أتذكر كيف كان المرحوم الشيخ تحسين سقاف يحرص على حضورك في بعض دعواته. صوتك جميل ومقبول وأداؤك أجمل وكنت تراعي فيه مجلس الحال لهذا كنت قريبا من الناس كعادة قدامى الفنانين وخاصة محاولتك اكتساب طريقة المرحوم الفنان الكبير حسن جاوا في مخاطبة كل من في المجلس أو بمعنى آخر رغبتك في إفهام أي واحد من الحضور أن غناءك له حسنه وتأثيره في النفوس. اكتسبت فنون أداء المجس من أشهر فناني تلك الحقبة أمثال حسن جاوا والكردوس وأبو خشبة بعدهم فأخذت من فهد أبو حميدي الذي أحييت أجمل الليالي الطربية معه، واختلفت عن محمود مؤمنة لأنك تمثل طبقة عالية وقوية وبعدت عن عبد الله بن عباس لأنه كان يميل في تخصصه للأغاني الجنوبية أسوة بعمر باعشن. لذا كنت تختلف حتى عن المرحوم محمد علي سندي الذي بدأ حياته الفنية بغنائه الأغاني المصرية فكان غناؤك في كثير من الأحيان مستقل الشخصية متميز الطريقة فصادفت هوى في حب المجالس الخاصة ذات الخصوصية فحاولت في كثير من الظروف التي عشتها وبين ما مارسته من أغاني العمل التي اشتهرت بها الطبقة العاملة التي تؤدي الغناء أثناء قيامهم بأعمالهم. ثم إني لم أنس تلك الأيام التي مارست فيها العديد من الألوان الغنائية وبعدك لم تنس أغاني الحرفيين وأصحاب المهن الحرة لقد كان للخضري غناؤه والفكهاني نداؤه والغواري مواله وللمعلم غناؤه تلك اللوحة الفنية الجميلة التي عشتها في أحياء مكةالمكرمة أكسبتك الكثير، فلقد تعرفت على غناء الركبان والقادمين من القرى فما أروع غناء الجمالة وهم يحملون قوت وزاد أهل المدن، لقد كان الخمري ذلك الغناء الشجي تعشقه النفوس فيرى ويسمع الجميع صداه بين جبال مكةالمكرمة وكانت أذناك تلتقطان الغناء تارة ورجع الصدى تارة أخرى. ولعلك تذكر كيف كان المبيضون «المليسون» يعجبون بأصواتهم أثناء الغناء داخل خزانات وصهاريج وحنفيات المياه التي كانت تقوم مقام أجهزة الايكو أو الصدى اليوم.. رحمك الله. وفاته توفي الفنان محمود حلواني في 4/13/1414ه الموافق 15/4/1994م. وكان قبلها قد أدخل المستشفى عدة مرات وكنت أواصل حضوري معه ومتابعة حالته الصحية كصحافي إلى أن توفي رحمه الله بعد أن ملأ حياتنا فنا وشدوا.