عنوان العمل الجديد لفيروز وزياد الرحباني هو الأغنية الأجمل على الإطلاق في الألبوم الذي صدر بعد انتظار دام سنوات، وهي خميرة أكثر من ثلاثين سنة من التعاون بينهما والذي عندما بدأ لم يكن عادياً ولم يبدأ بأغنيات أقل شأناً مما توصلا إليه معاً عندما اختمرت موهبة زياد ونضجت جملته الموسيقية وحنكته الشعرية وملكته التقنية مع الوقت. بدأ التعاون بأغنيتين عام 1973 ولم يكن يتجاوز زياد السابعة عشرة، وهما «سألوني الناس»، الأغنية الكلاسيكية الناضجة، و «قديش كان في ناس». مرت سنون من التعاون الناجح بين فيروز وابنها ابتداء من 1979 مع البوم «وحدن» إلى أن أتى العمل الأكثر اكتمالاً والذي جاء متأخراً بعض الشيء لعشاق فيروز وزياد الذي سنح لهم سماع بعض الأغاني منه في حفلات بيت الدين 2003 وبعض الحفلات خارج لبنان. «إيه في أمل» أتت رائعة مثلما أتت «قديش كان في ناس» منذ 40 سنة كلاسيكية شاعرية تجمع في إيقاع الفالس الذي بنيت عليه بين الحزن والفرح والحنين والحلم. أتت خاطفة للأذن والقلب معاً، مفعمة بالمشاعر والتصور الحميم بإيقاعها وتوزيعها الأوركسترالي المؤثر بصوت فيروز المختمر ذي الطبقة العريضة المناسبة للحن. أما كلام الأغنية فاسترسل زياد بالشاعرية فيه للمرة الأولى ملخصاً زمناً كاملاً من الشعر الحميم الملتصق بالأرض والطبيعة والحنان الذي غنته فيروز سنوات طويلة مع الأخوين رحباني وفي الوقت نفسه متخطياً إياه إلى واقعية زياد وزمننا هذا، فأتت هذه الأغنية ككمشة حنين لا جدوى منه ولا بد منه في آن واحد. نعرف أن زمن القرميد الأحمر والسنونو والقمح والميّ على انحسار، ولكننا ما زلنا نعشق هذا الزمن ونأكل الخبز والملح وفي الوقت ذاته نستطيع ألا نقع فريسة الحنين الواهم الذي لم يعد يمثّل الحقيقة الكاملة. ما زالت الطبيعة خلاّبة في بعض الأمكنة والأحاسيس مفعمة ورقيقة ولكن الزمن أصبح مختلفاً وسريعاً في صوره وإيقاعه وأسلوبه... وهكذا أغاني فيروز مع زياد تجمع الحب والخيبة والحنين مع الواقعية والسخرية والتهكم. نجحت أغنية «إيه في أمل» في جمع العالمين المتباعدين والمتكاملين في آن، لذلك أتت صادقة شاعرية دراماتيكية، غارقة بالحنين وبراغماتية في الوقت ذاته. جمعت فيروز الخمسينات والستينات وأوائل السبعينات مع الأخوين رحباني وفيروز-زياد الناضجة الثائرة اللاذعة الكاسرة للقيود. تلمس «إيه في أمل» المشاعر وقد تُبكي لأنها تجمع الحزن والأسف مع الفرح والحلم في رحلة موسيقية واحدة. ولو أتت «أنا فزعاني» قبلها رائعة بلحنها وصوت فيروز الذي ذكّرنا وقتها بخامة أجمل مراحله في فترة منتصف السبعينات، فقد كانت الأغنية قصيرة وسريعة إن لم تكن خاطفة مثل بعض أجمل ما غنت فيروز في الماضي ك «غرّب الحسون» في فخر الدين عام 1966، و «يا جيراني بخاطركم» في «ناطورة المفاتيح» عام 1972 و «قرب الموعد» و «مرق السفر» في نهاية المحطة التي لم تنزل إلى الأسواق في 1973 و «إذا الأرض مدورة» سنة 1971. لكن مع «إيه في أمل» أتاح لنا زياد الرحباني الفرصة كي نتمتع بصوت فيروز القوي والتوزيع الموسيقي الغني مع الكمنجات والمندولين لفترة مطولة كما كان الحال في الماضي مع أغان للأخوين رحباني: «ما في حدا» و «يا حلو شو بخاف» و «بكرة إنت وجايي» وغيرها من الأغنيات التي دخلت ذاكرتنا وأعماق نفسنا لتبقى. استرسل في التوزيع والكلام فأتت الأغنية عذبة كريمة على مهلها إلى حد النشوة بتفاصيل مثل كلمة «بس» التي تأتي قبل حبيبي كل مرة بصوت فيروزي منخفض فيه مسحة جازية. أتت أغنية «كل ما الحكي» صباحية فرحة سلسة تطرب على رغم الجو الكلاسيكي الفيفالدي الذي طبعها. وفيها انسياب وبساطة وطرافة في الكلام الذي لم يأت مركباً بافتعال أو تكلّف وإنما طبيعياً وخفيفاً ليصل إلى قمته مع البوح بصوت «مبحوح» «زي الحمام» وقلبي دليل كل الدليل» وذروة تواصل الكلام مع اللحن مع اللازمة «ما تفكر بدي انشا ومسوده» و «قلي بنهارك في وقت تنام؟». أما «قصة زغيرة كتير» فمفعمة بالحب والخيبة وصوت فيروز المنخفض فيها يزيد من عمقها ورونقها وهي تجمع ما بين الحداثة في الأوركسترالية والطرب الشرقي من دون أي تنافر بين الجويّن المختلفين تماماً والكريشيندو فيها متواصل مثل «كل ما الحكي» إلى أن يحدث حالة من الطرب بأسلوب معاصر كما يحصل في الغناء العربي الكلاسيكي عندما تلتقي الكلمة الأجمل بالنغمة الأسمى في نقطة معينة «يا سلام على بكره» وبعدها صعوداً نحو «ما فينا إلا نعدّ ونعدّ» فتكتمل النشوة مع «الأيام، شو ضيعنا أيام» و «الأحلام، شو كبّرنا أحلام». «الله كبير» تحفة موسيقى ودمج لصوت فيروز مع الآلات وكورال الشباب الذي يجعل منها «ضيعانو» ثانية بعد أكثر من عشرين سنة ... أغنية ابتهالية أقرب إلى المقطوعة الموسيقية من الأغنية وفيها اعتماد لتعبير شعبي/محلي صادق يلجأ إليه الناس في كل لحظات النجاح والفرح واليأس والإحباط «الله كبير» ... «إيه بعد في أمل» وربما هي الأغنية الأخرى التي كان باستطاعتها إعطاء عنوانها للعمل كله. وعلى رغم فرادتها وحداثة أسلوبها، فإن أغنية «الله كبير» تذكرنا عندما تدندن فيروز في نهايتها مع الموسيقى بأسلوب يعود إلى أوائل الستينات اعتمده الأخوان رحباني في ختام بعض الأغنيات مثل أغنية «مرجوحة». ولا يسعنا إلا أن نتمنى أن يحقق زياد وفيروز المزيد من الأعمال المعاد توزيعها وتسجيلها في شريط «إلى الأخوين رحباني» ثان فلا تبقى ذكرى «بعدك على بالي» و «دخيلك يا أمي» و «دق الهوا عالباب» و «فايق ولا ناسي» مجرد سراب يأتينا من القليل الذي سمعناه أو لم نسمعه في حفلات بيت الدين 2001 و2003 التي كانت من أعظم ما قدمته فيروز من حفلات حية في آخر 35 سنة من عملها الذي يرجع إلى أكثر من 55 عاماً من العطاء والتجديد والترهب للأغنية والموسيقى المغايرة لكل ما هو متحجر أو سهل أو رخيص. فإذا بالحياة تعطيها دور قيادة التجديد في مرحلتين متتاليتين ومتصلتين على رغم انفصالهما في عمر واحد. فما خاضته في الخمسينات وبداية الستينات مع الأخوين رحباني جعلها ملكة على عرش الغناء العربي الذي لم يستطع احد بعد أم كلثوم الاقتراب منه. بهذا الكمال والاستمرارية والتفرد وبعد ذلك عندما بدأت ملامح الانحسار والتكرار والاعتماد على الماضي في خلق الجديد مع الأخوين رحباني بعد مرض زوجها عاصي الرحباني في منتصف السبعينات انسحبت على رغم استمرار النجاح وقبول جزء من الجمهور بهذا التراث ولو بدأ بإعادة نفسه، وفشله في تقديم الجديد ومن ثم ما لبثت أن عادت وخاضت تجربة التغيير الجريئة نفسها مع ابنها الذي جمع مخاض كل التجربة الرحبانية مع تأثر واضح بسيد الأغنية الشعبية المصرية سيد درويش وأساس موسيقي كلاسيكي على أيدي أساتذته وانفتاحه على ما هو معاصر من موسيقى غربية وعشقه الخاص لموسيقى الجاز وال bossanova البرازيلية. ذهبت معه فيروز المولودة من جديد والرافضة للبقاء في سجن قداسة الماضي إلى عوالم جديدة كسرت فيها أسلوب الشعر الذي اعتاد عليه جيلها ولم تتردد في قول الكلام الجديد بأسلوبه الواقعي والحامل تعابير الشارع اليومية بعيداً من الشعر المترفع في أكثر الأحيان وكان عاصي الرحباني قد بارك هذه النقلة في حياته عندما أدخل أغنية «البوسطة» إلى برنامج الحفلات التي قدّمتها فيروز في أواخر السبعينات في العالم العربي ولندن وباريس وكان يقود الأوركسترا بنفسه. وربما كل هذا النجاح في التغيير والدخول في حياة جديدة لها جمهور جديد متواصل ومستمر يجعلنا نحلم بسماع بعض ما أعطاه زياد من أعمال جميلة لأصوات أخرى مجدداً بصوت فيروز خصوصاً بعض الأغنيات التي يصعب تقبلها بصوت آخر لما أدخله صوت فيروز في غرائزنا من ربط بينها وبين الأخوين رحباني وبعدهما زياد، جاعلاً بعض ما يلحنه الرحباني الابن كما في الماضي مع الأخوين غير ممكن أو غير مقبول إلا بصوتها. فمثلما يحلم بعض عشاق صوت فيروز بسماع أغنيات قديمة مثل «وصلو الحلوين» وبعض أغاني صباح من «أيام العز» و «دواليب الهواء» بصوتها، فها نحن الآن بتنا نتمنى أن تسترجع فيروز جزءاً كبيراً من الأغنيات التي قدمتها لطيفة في «معلومات أكيدة ومش أكيدة» و «ابن الحرام» و «أمنلي بيت» كما أنني متأكد من أن أغنية «ما دام أحلى وردة بتموت» التي قدمتها المغنية الشابة سلمى في عملها مع زياد منذ بضع سنوات ستكون رائعة وخالدة لو قدمت بصوت فيروز.