اعتدنا على أن نصاب بخيبة كبرى عندما نشاهد رواية استحوذت على إعجابنا في وقت ما وقد تحولت إلى فيلم، لأن الفيلم يعتدي على مساحات وسهول المخيلة الشاسعة، ويؤطرها في ذلك المربع الفضي الذي يتطفل على صناعته المخرج وكاتب السيناريو وأداء الممثلين وميزانية الانتاج، ليكتشف المتابع أن ما يراه لاينتمي لذاك العالم الآخاذ الذي منحته له الرواية، ولكنه مجرد رؤية حاول فيها مخرج أن يلاحق مضماراً تصهل فيه خيول المخيلة . ولكن يبدو أن الوضع قد تغير مؤخرا فثقافة الصورة وتقنيتها العالية قد استطاعتا أن تعسفا هذه الخيول وتطهمها وتقدمها في عمل فني أصبح يتحدى خمول الذائقة ونمطية التلقي. أنا أعتقد بأن العمل الفني (أي نوع من أنواع الفنون) لا نستطيع أن نطلق عليه عملا متميزا يحمل قيما إبداعية إلا إذا تحقق به أمران : - أن يُحدث نوعا من التماهي والاتصال والتقمص بين العمل الفني والمستقبل. - أن يحدث العمل الفني نقلة: فرقاً في الوعي .. كشفاً.. دهشة.. أو شهقة جمالية أثناء استقبال المتلقي للعمل . وفيلم (حياة باي) أعتقد أنه يمتلك من المقومات ما تحقق له جميع ماسبق . الفيلم مأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب الكندي (يان مارتل)، وهي الرواية التي فازت (بجائزة البوكر)، لكونها مفعمة بالخيال والحكمة والفلسفة والأحداث الشيقة، كما أنها نالت شهرة كبيرة وترجمت إلى عدد من اللغات العالمية، ومن ثم مثلت فيلما مؤخرا، ولأنني سبق وأن قدمت قراءة حول الرواية في نادي كتاب الشهر في مكتبة الملك عبدالعزيز قبل عامين، فقد كنت حريصة على مشاهدة الفيلم على الرغم من خيبات سابقة من روايات سابقة تحولت إلى أفلام وكانت كثيرا ما تحبطني.. أقرب مثال الفيلم المأخوذ عن رواية (الحب في زمن الكوليرا) للكاتب النوبلي(ماركيز)، أو الفيلم المأخوذ عن رواية ( العطر) لزوسكند. لكن مع فيلم (حياة باي) عندما كنت أتابع الفيلم داخل صالة السينما أحسست في لحظة ما أن الفيلم يشاهدني، ليس أنا من يشاهده، فمن خلال تصاعد الأحداث وعمق الحوار أحسست أنه يطل على مناطق دامسة وخفية في أعماقي، مناطق تحوي مخاوف قديمة، وخيبات كامنة، وأحلام لم أشرع في مقاربتها .. وهذا بالتحديد هي مهمة الفن. الفيلم يحمل هوية عالمية حيث تتداخل بها الأمكنة والأجناس، والأديان فمن كاتب كندي يجول الهند بحثا عن أحداث لروايته وأجوبة لحيرته الدينية، وبين قصة عجيبة لفتى هندي تقاذفته العقائد، الأقدار، الصدف والأمواج كما تقاذفت أمواج الطوفان النبي نوح عليه السلام فوق مركبه مع مجموعة من الحيوانات . ويظل هذا الفتى يصارع أقداره بإرادة عارمة للحياة، كما في أبطال الأساطير، إلى أن تقذف به أقداره إلى الجانب الآخر من العالم ضمن سلسلة أحداث، استطاع المخرج وطاقمه من خلالها أن يحافظ على قيمه الجمالية المرتفعة في صناعة لقطات آخاذه، وفي نفس الوقت أن يشد انتباه المتابع حتى آخر لقطة. فيلم (حياة باي) ترشح لعدد من جوائز الأوسكار، ونال بعضاً من الجوائز العالمية، وأعتقد أنه استطاع أن يقف بموازاة نجاحات الرواية. ولو قيل لي هناك فيلم واحد فقط ستشاهدينه هذا العام لقلت بلا تردد هو .. (حياة باي) .