لم تأت فكرة البرنامج التلفزيوني الشهير «أبناؤنا في الخارج» -الذي برهن في بداية الثمانينات الميلادية بإعداد وتقديم المذيع والإعلامي الشهير ماجد الشبل (شفاه الله) - عن فراغ؛ إذ بقدر الصورة الحية التي قدمها هذا البرنامج عن مرارة الغربة ولوعة الاغتراب بالقدر نفسه، كان فرح الأهالي حينها لا يكاد يوصف وهم يشاهدون أبناءهم بالصوت والصورة يتحدثون عن أوضاعهم الدراسية وأحوالهم المعيشية، ويتطلعون إلى مستقبل مشرق بتفاؤل وطموح من شأنه أن يقلل من الشعور بالغربة والبُعد عن الوطن، لا سيما في البلاد النائية التي قلّل من بعد مسافتها ما يجريه الطلبة المغتربون أمام وميض شاشة المحمول من اتصال مباشر بالأهل والأصدقاء؛ ممن يرددون على مسامعهم قول الشاعر: تغرب عن الأوطان في طلب العلى وسافر ففي الأسفار خمس فوائد يبعث برسالة خطية من أمريكا والجواب يصل بعد شهرين في «سوق الديرة».. فقدان التواصل كان الابتعاث للدراسة أو الحصول على دورات تدريبية مطولة يمثّل الوجه الحقيقي للغربة، فلم يوجد حينها جوال خلوي ولا اتصال فضائي، بل لم يتهيأ للكثير من طلبة ذلك الزمان اتصال أرضي عبر الهاتف الثابت، إذ ان معظمهم جاء من قرى ومدن صغيرة لم تصلها آنذاك شبكات الهاتف الأرضي، وعليه كان العزاء في آلية التواصل التقليدي المتمثّل في البريد الذي يصلهم بعد ما يقارب الشهر أو الشهرين، كما صوّر أحد المستشرقين تهافت الأهالي على ما يحمله ساعي البريد الذي يحط بضاعته من الطرود والمظاريف قُرب «سوق الديرة»، فيتسابق الناس للبحث عن رسائل أبنائهم الذين طالت بهم غربة الزمان والمكان. ولم يكن فقدان آلية التواصل والاتصال بالأبناء المبتعثين العامل الوحيد لظروف الغربة والتغرب، إذ أن شغف الكثير من الطلبة لأخبار بلادهم وأحوال مجتمعاتهم ظل هاجس الكثيرين حتى قبل السفر، فلم تكن حينها القنوات الفضائية والأقمار الصناعية، كما لم تعرف البشرية حينها خطوط الشبكة العنكبوتية والصحف الالكترونية، ويكمن العزاء -ولا عزاء- في تلقّف البعض لأخبار صحف ورقية لا تغطي في معظم أحوالها أخبار المجتمعات العربية، أما الصحف المحلية التي تصل عبر السفارات والملحقيات فمن الصعب حصول البعض عليها، لاسيما من يدرسون في مدن وقرى نائية، ناهيك عن وصولها المتأخر الذي يجعل معظم الأخبار المنشورة من حديث الماضي الذي يزيد البعض شغفاً بمعرفة تداعيات هذا القرار أو مستجدات ذلك الحدث الذي ظل بعضهم يتلقف أخباره من إذاعات الدول العربية عبر أثير المذياع الذي يُمثل أقرب الحلول، لا سيما لأولئك المعنيون بالشأن السياسي والاقتصادي وحتى الرياضي بمستواه القاري والإقليمي. برنامج «أبناؤنا في الخارج» صبّر الأمهات على شوقهن لأبنائهن قبل أربعين عاماً المقهى العربي كانت عوامل الغربة تختلف من شخص إلى آخر، ومن طالب إلى زميله، إذ لا يقف الشعور بالغربة والتغرّب عند انقطاع السبل وآليات الاتصال والتواصل فقط، بل يتعداه عند البعض إلى عدم استطاعتهم التأقلم مع البيئة أو الوسط الذي يعيشون فيه، وإن كان البعض قد تجاوز ثقافة اللباس؛ فمن الصعب على بعضهم أن يتماشى مع ثقافة «السي فود»، بل إن بعضهم ظل يُمنّي النفس بأكلاته العربية، وراح يجوب شوارع وأحياء المدينة التي يقطنها؛ لا لشيء، سوى أمل في العثور على مطعم عربي يبيع له ما يملأ العين وينسيه لوعة الفراق والبين، ولا عزاء له حينها إلا بمطعم في أقصى المدينة يقدم لزبائنه شرائح اللحم المظبي و»نثرية» الخروف المندي، وإن لم يكن ذلك فلا بأس ب»الكُشري» أو حتى «الكسكسي»، أو ما اعتاد العرب على توفره في كافة المدن والأصقاع، حيث يبدأ بترحيب من قبل ذلك العربي القُح من أهل الشام الذي يُموّج مطعمه بأطياف «المتبل» و»التبولة» وأصناف «المحمّرة و»المجدّرة»، وفيه يقرأ المغتربون العرب الصحف اللندنية، ويطيل بعضهم السماع لمذياع يحمله على عاتقه؛ علّه يجد بين أخباره الثقيلة التي يلقيها رجل تعرفه من أنغام حنجرته لا يستنكف مع قراءته للأحداث الصاخبة بعالمه العربي من أن ينهي فترته الإخبارية أهزوجة لمطربة من مطربات ذلك الزمان، تشكو فراق الأحباب ولهيب الوجد والأشواق، وهي تردد «أحبابنا يا عيني ما هم معانا»، يقابله مذياع في المقهى المجاور يُجلجل بشكوى الاغتراب واستجداء زيارة الأهل والأصحاب وهو يردد «زروني كل سنة مرة حرام تنسوني بالمرة». طلاب مبتعثون إلى أمريكا في لقطة مع الأمير بندر بن سلطان قبل 30 عاماً «قرصان وجريش» في زاوية أخرى من المطعم ثمة شاب وسيم نبرة كلامه تنبئ عن أحلامه، ونظراته تُعبّر عن عبراته، يبدو بهدوئه وسَمته ووقاره أنه اكتسب روحانية الحجاز وطيب هواء نجد، وربما تهيأ له ما تهيأ لغيره في معرفة صديقه الهائم في فكره بين عيون الأحساء وشموخ جبال عسير، ولا أنهم من أبناء شمال جزيرة العرب، فلا حديث حينها عن الكرم الذي اعتاده هؤلاء مع أبناء جلدتهم وبني عمومتهم العرب المغتربون، حيث الاجتماع الاسبوعي الذي ساهم وبشكل كبير في وأد ظروف الغربة وجمود التغرّب، وهناك حيث يجتمع الغرباء في دواوين الأقارب والأصدقاء، حيث يطيب المذاق وصادق الأشواق لأكلاتهم الشعبية، ولا عزاء حينها لفقد «الكبسة» و»العصيدة» و»القرصان» و»العريكة»، إلاّ ما عبّر عنه هؤلاء المبتعثون من مكنون أسرارهم وصادق أشعارهم يوم أن حضرت «الكبسة» بإيوانهم وخيوانهم لتجود قريحة هذا الشاعر الجائع بقصيدة «دسمة» قال فيها: اضرب بخمسك لا تأكل بملعقة إن الملاعق للنعماء كفران بالأمس قمت على المرقوق أندبه واليوم دمعي على القرصان هتان هذا الجريش طعام لا مثيل له عليه من مستهل السمن عذران مبتعثة تتواصل مع أسرتها بالصوت والصورة دون تكلفة تذكر تواصل مباشر في عصرنا الحالي اقترب البعيد، وتكلم الحديد، وبدت موجات الأثير والألياف البصرية خير دليل لساعي البريد الذي يقطع الصحارى والقفار والجبال والبحار؛ لإيصال «ورقة بالية» يستدعي الرد عليها المرور بما مرت به سابقتها التي حررت قبل شهر من وصولها، حتى أصبح المبتعثون في زماننا هذا يُطلّون على أهاليهم من شرفة حاسوبهم المحمول، ولا يقتصر ذلك على سماع أخبارهم ومعرفة أحوالهم، بل يتعداه إلى التصوير الحي المباشر الذي من خلاله يقف الطرفان على واقع حال بعضهما البعض بخصوصية تامة وأجور زهيدة، ناهيك عن معايشة المبتعث لأخبار ومستجدات بلاده أولاً بأول من خلال القنوات الفضائية والصحف الالكترونية ورسائل ال»SMS»، بل لقد تجاوز هذا كلّه إلى المشاركة التفاعلية مع ما تنقله هذه الصحف والقنوات من الأخبار والتقارير من خلال المداخلات المباشرة وغير المباشرة عبر الاتصال الفضائي أو التغريد على صفحات «التويتر» والصحف الالكترونية، حتى صادق ذلك على نظرية ذلك الفيزيائي النبيه الذي اكتشف قبل عدة عقود أننا في هذه المعمورة نغوص في بحر من الموجات، وعليه لم يجد المبتعثون في عصرنا الحالي غضاضة من سؤال بعضهم البعض عن كيفية إعداد الأكلات الشعبية المشهورة، بل لقد ساهم البعض بتبرع سخي تمثل في استحداث مواقع خاصة بكيفية إعداد الطعام والأكلات المحلية منقولة بالصوت والصورة، كما تبرع زملاء لهم تلخيص بعض المقررات الدراسية والمواد العامة، ناهيك عن من تكفل بإرشاد الطلبة المستجدين بأنظمة البلد المستضيف والجامعة محل الدراسة، وكل هذا عبر مواقع إلكترونية ساهمت وبلاشك في التقليل من لوعة الغربة التي عبر عنها «خير الدين الزركلي» حين قال: العين بعد فراقها الوطنا لا ساكناً ألفت ولا سكنا ريانة بالدمع أقلقها أن لا تحس كرى ولا وسنا ليت الذين أحبهم علموا وهم هنالك ما لقيت هنا ما كنت أحسب أني مفارقهم حتى تفارق روحي البدنا إن الغريب معذبٌ أبداً إن حل لم ينعم وإن ضعنا أسر يترقبون «ساعي البريد» أملاً في رسالة تطمنهم على أبنائهم المبتعثين متابعة المبتعثين في برنامج «أبناؤنا في الخارج» برفقة المذيع «ماجد الشبل أول بعثة سعودية إلى مصر عام 1928م حيث لم يكن التواصل مع أسرهم إلا برسائل البريد جانب من الطلاب المبتعثين إلى أمريكا في مناسبة رسمية حيث عانوا من غربة الابتعاث أكثر من الجيل الحالي فرحة التخرج اختلفت كثيراً مع الجيل الحالي برامج الاتصال المرئي (سكايب) ساعدت المبتعثين على التواصل مع ذويهم مبتعثون يوثّقون فرحة اليوم الوطني ووصلت إلينا في لحظات