زماننا هذا يصح أن نسميه زمن التراشق، إذ ترشق كل أمة أختها بالتهم، وتحملها تبعة الواقع المرير الذي تعيشه. وينسحب هذا على الأفراد، فيرشق كل واحد أخاه ويتهمه، ويحمله نتيجة كل عمل قام به غيره، أو كيد كاده عدو. وما من مجلس، ولا صحيفة، ولا موقع إليكتروني، ولا منتدى للتواصل، يخلو من الشكوى من الفساد الذي عشعش في أرضنا واستفحل، وعلا قرنه، واشتد أزره، واستوى على سوقه، وتمكنت جذوره. وليس بالإمكان إنكار ما يراه الآخرون، ولا يخفى على الناظرين. بل ربما كان هذا مكابرة وعنادا. ولكن المسلم الذي يعيش في كنف القرآن، وينظر في آياته يدرك تماما أن للفساد منبعا، وله أخاديد يجري فيها، وله آلات تدفعه وترفعه. والمحور الأساس في هذا هو الإنسان، الإنسان نفسه، الذي يشكو من الفساد، ويعاني منه، إذ هو الطرف الأول، وهو أيضا الطرف الثاني، والثالث والمئة. فالإنسان هو كل أطراف الفساد، وهو مصدره، وهو مغذيه، حتى لو كان هذا الإنسان صالحا تقيا ورعا، فقد يكون جزءا من الفساد بصمته، وخوفه، ومداهنته، وحرصه على مصلحته. وأما الإنسان الفاسد أصلا، فلا يحتاج إلى إشارة إليه، لبيان مشاركته في الفساد وظهور أنه ركن من أركانه. وإن تعجب فعجب تنبه الناس إلى المرتشي، وغفلتهم عن الراشي، وعن الرائش بينهما، ولعل خطر الراشي أعظم من خطر المرتشي، ولهذا قدم في الحديث، لعن الله الراشي والمرتشي، والرائش بينهما. فهذا الراشي حين أراد الحصول على ما ليس من حقه، والتحايل على النظم والشريعة عمد إلى إغراء المرتشي بالمال، وبغير المال ليسيل لعابه، فيوافق على أخذ ما يظنه كسبا وحنكة ليسهل للراشي مهمته، وينيله مأربه. وكذا فعل الرائش ليوفق بينهما، ويطمئن كل واحد منهما إلى رفيقه كي لا يخاف فضيحة أو أن يكون دسيسة. ولا ريب أنك ستلحظ أن الأطراف كلها من الإنس، وهم مسلمون، لكن سيعتذر كل واحد منهم بحاجته، وأعذار كثيرة جدا يعلل بها جريمته، ويستر بها سوءته. إن الفساد الذي نعاني منه، نحن جزء منه، إن لم نكن نحن أطرافه كلها. يسكت الناصح منا، ويعثو الفاسد في الأرض فسادا، فظهور الفساد لا يكون هكذا دون وجود المفسدين والفاسدين، فإذا اشتكى الكل من الفساد والإفساد، فمن هم المفسدون، وأين هم الفاسدون ؟ إن آية في سورة الروم ترسم هذا بوضوح لا غبش فيه { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون . فظهور الفساد بما كسبت أيدي الناس، لأنهم أطاعوا الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ولأنهم سعوا في الأرض ليفسدوا فيها ويهلكوا الحرث والنسل، ولأنهم غرتهم الحياة الدنيا فاستعجلوا العلو فيها، طمعوا في نيل ثرائها والاستمتاع بملذاتها. ولأنهم أغلقوا طرق الحلال على الكثيرين فاضطروا إلى سلوك طرق الحرام التي غدت أيسر وأسرع وأهون، وأقصر الطرق للثراء ! ألسنا نراهم ويروننا، ونجالسهم ويجالسوننا، لكننا في كثير من الأحيان نلزم الصمت حتى لا تتعطل مصالحنا، فقد غدى في زماننا هذا لا مصلحة تنجز إلا بمعرفة، ولا مشروع يؤخذ إلا بواسطة. فنحن الذين نحارب الفساد، ونحن في نفس الوقت نمارسه، بصنوف شتى، وبأعذار شتى، بل غدونا نحارب الخارجين عن منظومته بعلل شتى. أكثرها شيوعا : اسكت وكل عيشا. فنحن نرى السلامة من المواجهة مغنما وراحة، في حين نفقد في السلامة أضعاف ما كنا نخشى أن نفقده في مواجهتنا للفساد والمفسدين !