الكتابة عن الوجع ليست سهلة، الكتابة عن ألم حقيقي تظل مغامرة. فكيف للمبدع أن يضبط ذاكرته مع الألم ويسرد تداعياته بحرفية الفنان لا بشكاية الرجل المتألم. والقاص حسن دعبل في كتابه "وحشة البئر" تجاوز هذا المأزق. وقدم رحلته مع مرض اللوكيميا بأسلوب سردي متمكن فيه صوت الناجي يتداعى عن الآلام والأوجاع والذكريات ومجابهة الموت. وفي هذا الحوار مع القاص حسن دعبل نتعرف على تفاصيل وحشة البئر: * في كتابك "وحشة البئر" لم تكن الكتابة عن ألم متخيل أو ألم مستعار، بل كانت الكتابة عن ألم حقيقي وعن تجربة عشتها مع مرض اللوكيميا. هذه المعايشة الحقيقية كيف ترى انعكاسها على لحظة الكتابة والسؤال هل كنت المدون لرحلة الألم أم الرجل الذي يستدعي رحلة الألم ليكتب؟ - وهو الألم الحقيقي الذي كابدته وتوجعته، في لحظة ذهولٍ وسقطة في الظلام الدامس، الموحش والمخيف؛ لم أدون ألمي لحظة السقوط، أو أكتبه على شكل يوميات، غبت عن نفسي وإسمي في تلك اللحظات و هويت بسرعة الشهب من ليل سماواتي، ولم أكن لحظتها أفكر في شيء، غير زوجتي وشموسها وهول الصدمة والفراق وهزيمتي. هل هناك أقسى من خِنجرٍ تُطعن به بغتةً في خاصرتك؟ إنه خنجر "اللوكيميا" في تلك الليلة الباردة اليتيمة ، وأنا ممدد على سرير القبر. لذا الكتابة كانت بعد خروجي من البئر، أي لحظة الصعود إلى العالم العلوي بنوره وبهائه وقناديله، الناس والحياة. لهذا كانت عبارتي واضحة وصارخة وجارحة لحظة كتابة هذا الألم: ما أصعبَ أن تتذكَّرَ لحظات الألم! أن تعصفَ بذهنك إلى الوراء الغائب والبعيد! أن تسترجعَ لحظاتك المُؤلمة، السّقم، العجز، البكاء الصامت، ولحظات الغياب. أن تتذكّر خفوتك، ونحولك، وسقوطك! سقطتك المُظلمة، ذهولك، عجزك، ورميّة السرير! * العنوان لكتابك هو وحشة البئر وهو عنوان له دلالة الوحدة والخوف والانقطاع عن عالم الحياة، وهو متناغم مع صوتك السردي. حيث العبارة التي تحمل أنين وبهجة الناجي. كيف ترى دلالة هذا العنوان؟ - أيضاً السؤال المتكرر عن العنوان أو عناوين النصوص، ربما هي شفرة أو برزخ الولوج إلى النص لحظة الغياب، العنوان هو من قادني وشدّني بعلوه، أو هو حبلي الناجي ساعة العذاب، أو هي ساعتي الأولى في تلك الوحشة المفزعة، وربما لو كتب عنوان آخر عن المرض أو تجربة المرض أو معاناتي مع مرض اللوكيميا؛ لا تشدني إلى تلك المُخيلة العذبة لحظة الكتابة والسرد، والتي بعدتَ بها عن يوميات المرض بسرد الحياة وعذاباتها وملذاتها وحسرتها. ألم تكن الوحشة لحظة الفراق، والبئر هو ما يرمز إلى الغياب. إنه النزول والسقوط إلى هاوية ووحوش وعذابات العالم السفلي بكل دلالالته المثلوجية. * الكتاب لا يحتوي فصول او عناوين داخلية. كأنه مكتوب بنفس واحد. هل تعمدت أن تجعل السرد بهذا التدفق المستمر الذي لم ينقطع. هل كنت ترغب في أن تحافظ على احساس قارئك بأن يظل المأسور بهذا الايقاع السردي؟ - لم أتعمد شيئاً لحظة كتابة هذا العذاب من السرد، وكما أسلفت مفتتح الكتاب، به هذا العذاب من البوح والنوح والوجع، ولم أخطط أو أدون في أيام عذابي تلك الأشياء الدقيقة والهامشية، فقد كنت غائباً تماما ومُغيبا مِن مَن حولي... تلك الإنثيالات والتداعيات ونهر السرد الذي تدفق وفاضت به ضفافي بجفافها وعطشها وسقمها، هي من أوجعتني لحظة كتابتها:لحظاتٌ موجعةٌ بقسوةٍ كتبتها، وأنا أزيح الجبال والأثقال والخطايا والذنوب. لحظاتٌ أتمناها طاهرة وصادقة، لحظة خياطة هذا الكفن. لذا كان نفس الكتابة، رحلة محفوفة بالخوف والفزع والأنين، وحيداً عن الأحباب والخلاّن والأصحاب، مسافراً بوحدتي وسردي وكتابتي، ومتطهرأ من أرداني ونجاسات الدنيا. * المشهدية في الكتاب حاضرة بمستوى محدود. كان الجسد المعلول هو من يحتل مشهد السرد، كانت الوجوه غائبة أو هي في الظل. هل كان الاتكاء على أنين المستوحش في بئره طاغيا على المشهدية في الكتابة ؟ - التوحّد بالألم موجع، كنت أتحسس جسدي بيدي، وأهرب من المرايا، أحدّق النظر في زواري وأصدقائي، أرى حسرتهم وصرختهم الحبيسة، أنشج بسكوت لحظة السؤال، أغيب عن توددهم وهم يدارون فزعي، ونحول الجسد، يتحاشون السؤال عن المرض، وأتلعثم في الجواب خوفاً من الموت والبعث والعذاب. هي تلك حالتي بين الوجود والعدم، كنت أهيم وأسرح في وحشتي الدامسة، سادراً في هزيمة جسدي ونحوله وتحوله، وأوجاعه وصراعات كريّاته المتوحشة وهي تنخر عظامي مطروحاً ومهزوماً. * الكتابة عن الوجع بقدرة ماهي سهلة كحالة ألم لكنها أيضا حالة فنية صعبة، لأن قاموس الوجع يظل محدوداً ويكاد الكثير يكتب وجعه بمفردات متكررة. لكن كتاب وحشة البئر كان قاموسه متسعاً وبقدر ما يتوجع القارئ من سرد الألم إلا أنه يبتهج بلذة السرد. كيف ترى هذه المعادلة الفنية في كتابة الألم؟ - ربما لا أتفق معك في هذا السؤال، لأن الكتابة عن الوجع ليس بتلك السيرة المدونة التي تتلذذ بلهو غواياتها وملذاتها ومفرداتها، أنت هنا تقف أمام مرآتك بدون خجل، لتكتب بصدق وطهارة عن وجعٍ مفزعٍ؛ وأي وجع حين يباغتك طبيبك بغتةً، أنك مصاب بمرض "اللوكيميا، أو مرض سرطاني في الدم، ولا تملك غير فقر المعرفة وأنت تهوي سريعاً الى الظلمة والعذاب.. لذا كانت الروح فائضة بأوجاعها ومفردات حيواتها الماضية. حتى تلك اللذة الذي قرأتها وفززت عندك هذا التساؤل هو المخبوء والمدفون من الذات المهزومة والراحلة والمودّعة. * منذ قصيدة مالك بن الريب في رثاء نفسه والمبدع العربي يذهب الى صياغة رثائه . منهم يكتب عن مهابة الموت ومنهم يتعمق في وجعية الفقد ومنهم يتجلى بسرد تفاصيل كانت مخبأة. في كتابك وحشة البئر - صوتك السردي في أي حاله تجادل مع رحلتك مع الألم ؟. - لم تلسعني الحية التي لسعت مالك بن الريب، وجرى السَّم سريعاً في دمه، وهو يرثي موته بتلك القصيدة المشهورة: ألا ليتَ شِعري هل أبيتنِّ ليلةٌ.....لكنّ دمي إبيضّ من سرطانه، وذهبت قداسته وطهارته ولونه، هكذا فزعت بوحشتي، وكتبت تلك اللحظات العصيبة التي عشتها بتفاصيلها السقيمة، وبكل لحظ مُغيّبة عايشتها، سافرتْ بي الكتابة بعيداً بلحظات الغياب والهاوية، والاقتراب من الموت وجزعه وهلعه. تلك اللحظات القاسية بأوجاعها ووخزات العظام بسيوف ورماح تعذبني، لحظات اللاوعي البعيدة في برزخها، وأنت تترقب الموت بدمك المسموم بسرطانه وكريّاته المبيّضة؛ ذهبتْ بي الكتابة هناك، إلى طهارة المكان البكر من صرختي في الضوء لحظة الولادة، إلى حافات بعيدة من الجسد الغرّ من قماطي وطفولتي ونزقي وشبابي، أسئلة الوجود المقلقة اقتربت من كواكبها السيارة، ومشيت على خيط ٍمن الصراط والوداع، والانتقال الى برزخ آخر ينتظرني فكان صوتي يركض بي في بريّةٍ موحشة . تلك هي رحلتي التي كتبتها هنا بعد خروجي من "وحشة البئر".