مبهجة هي الذات القادرة على التعبير بالكتابة عما عبرته من آلام، أما تلك المتباكية على سوء حظها فلا تستدر العطف بقدر ما تُشيع البؤس والإحباط. وفي «وحشة البئر» الصادر عن «دار جداول»، يستدعي حسن دعبل ذاته التي تعرفت على الحياة واختبرتها من خلال المعاناة. أو هكذا يبدو أقرب إلى فكرة تحويل رحلته مع آلام المرض إلى معنى. فالأثر اللفظي الدال على الخوف والوهن واليأس، وإن بدا كثيفاً وطافحاً في كثير من المفاصل، كالمنية، والموت، والوحدة، والهزيمة، والوحشة، إلا أن نصه المنذور لسرد سيرة الخوف والتعب يختزن رغبة أكيدة في التعافي ومعانقة المسرات. بل إن كتابته في مجملها تبدو خارجة من ذات فرحة بالنجاة من الموت. إنه لا يكتب عن الألم بلغة وصفية وأحاسيس برّانية، بل من داخله يكتب، ومن صميم الإحساس به. من أقصى نقطة في قاع روحه المهترئة يكتب. من لحظة خياطة الكفن، التي تراءت له إثر إصابته ب «اللوكيميا». يكتب على إيقاع شهقات الموت وانغراس الإبر في عروقه. ومن قناني الدم المسحوبة من خزان جسده المنهك يغترف حبر عذاباته النفسية والجسدية. يكتب بعد انغساله بملوحة بحر طالما عشقه. خارجاً من قماط ميلاد جديد. في «وحشة البئر» تنثال جماليات ذاته المعذَّبة روحاً وجسداً، المعبر عنها ب «جثة متحركة برداء أزرق تتقلب ذات الجنبين». ومن جسده المسجى على السرير تندلق الحكايات الموجعة، فيما يبدو رثاء للكائن الموشك على الرحيل، المبهوت أمام فجيعة الجسد المعطوب، واللاهج بترنيمة الوداع «أرى القبر باسطاً شراشفه مُلطخاً برائحة الدَّواء، وماء الحياة تقلُّ قطرات غيمته». في ممرات النص والمستشفى تندفع عربة موته المركوض بها من الأطباء والممرضات، ليسلموه إلى سرير بارد له شكل ومعنى ووحشة القبر، لينصلب عليه ببطء، وهو يتمتم بضعف واستسلام «أهذا قبري؟». وكلما حاول التماسك، واستعادة توازنه لتناسي حقيقة مرضه خيّمت عليه غيمة اليأس وإحساس المهزوم بدنو الأجل، «إذاً هو الموتُ أقرب لي من حبلِ الوريد». لم يجرؤ على التلفظ باسم ذلك الوحش الذي باغته إلا بعد حين. وهذه هي حال ذاته المصدومة بحقيقة المرض المرعب، المقيمة في حالة الإنكار لحظة سماع التشخيص «ابيضاضُ الدَّمَ النقوي المُزمن». ومن وراء غبشات صوتية وبصرية يسمع صوت الأطباء والمسعفين، فيما يشبه التشخيص الأدبي لحاله «كريات دمك صاعدة إلى سماواتها العليا.. سنساعدك على خفض كريات دمك المتوحشة». وإذ يطل الموت بذلك الإلحاح المخيف تنفلت ذاته من توازنها وترتد إلى اللاوعي. إلى التاريخ. إلى معنى الإنسان. إلى مغزى الحياة وسر الخلود. فالذات المنصّصة هنا، لا تهرب من العذاب وحسب، بل تفر بعيداً في السيناريوهات المتخيّلة نأياً عن شبح الموت المترائي أمامها في كل لحظة. وهنا سر استدعائه الدائم للأثر الجلجامشي، حين يتحسس جسده المطروح في فراديس الغياب، فيتمتم «ما أعظم الشبه بين النائم والميت.. ألا تبدو عليهما الهيئة ذاتها؟». إلى أن يستيقظ فزعاً على وصية سيدوري «إنَّ الحياة التي تبحثُ عنها لن تجدها». تحت وطأة الجسد المنهك يغيب عن المكان «سافرتُ في الصمتِ والذُّهولِ والّليل وأزيز الألم». ولئلا يفقد صلته بحاضره، يحاول تمكيث ما تبقى منه في الزمان. يستدعي خلائط من الماضي «أطوي أزمنةً بعيدةً وأنا أسبح في برزخِ الخِدر والهذيان». تأتيه آهة أسلافه من بعيد «ودعتكُم بالسلامة يا ضوى عيني». وعندها تنحل عقدة لسانه، وتتوالى عباراته كغريق يلمح حافة اليابسة «أنا من مكانٍ يحمل رُقيماته ولُقيّه وقداسة قُبوره، وسُرّ مدفنه المائي.. أنا من جزيرةٍ مُسيجةٍ بالبحر والنخيل؛ من هذا المكان بجذوره المُوغلة، أنا من جزيرةٍ حملت هيكل قداستها بمعبودتها المُقدسة.. أنا من قريةٍ ناعسة في أطراف هذه الجزيرة، تغسلُ شعرها كل صباحٍ بمياه البحر، وتنامُ في حضن الشَّمس، أنا المزروع في خاصرة دلمون الخلود». تطوّح به غيبوبة الوجع خارج لحظته ومكانه، فيستحضر الوجوه المتلألئة على أمواج البحر «أسبح في الغناء ورقصة الأجساد، وكثرة المراكب؛ يهمسُ لي جدَّي، سنردِمُ البحر بالحجارة، فأضحك وأرقص معهم، ومراكبهم تنسابُ بثقلها وغياب الهواء عن أشرعتها، يهمسُ بي: هُنا ستُدفَنُ أوجاع الغوص وحكاياتِ القراصنةِ والنهابةِ وحروبَهم. يهمسُ بي آخر، ستتبدَّلُ ملابسنا وأجسادنا، ستغدو أبداننا بيضاءَ كالحليب، وهو يشيرُ إلى وجوهٍ وسحن تتلون صِبغتها بهواءٍ رطب، مسحونة بشمسٍ حارقة، وضحكاتٍ ومفرداتٍ غريبة». بخِفة الحالم يرتد عمودياً إلى طقس الذبح التمثيلي الذي أدّاه جسده الطري في طفولته. فينبثق وجه أمه، وتتداعى الذكريات. فكل لمحة بالنسبة إليه تشكل صاعقاً نفسياً لانفجار خزانه الشعوري. إذ ينظر إلى احمرار يده فينهمر على روحه عبق حناء والدته «رائحة ليمون منقوع داخل جفنة». ويتسلل إليه ذلك الغناء الشفيف الذي يشق ستار الليل «أتلذذُ بالذِّكريات، أقلبها على جهاتها الغابرة، أشعل الحنين والأيام، أتذكر ليالي مقمرةً وصافية، وأتذكرُ الأسماء، أُمرر الحنين مُشتعلاً بجمراتٍ وأغنيات، ورقصاتٍ ولهو. أُمررُه بحسراتٍ وانكسار وغُفران، أُمررهُ بندم المكسور والمُنطفئ باشتعالات حنينه». ولكن الألم أمضى من أن يسمح له بتذوق طعم الذكريات، وحلاوة الإحساس بحضورات تلك الوجوه «لا رائحة تُوقظني، ولا دمعة تغسل روحي». إذ لا حقيقة تُخرجه من إغفاءته إلا الألم المضاعف، وشبح الموت «أفز هلعاً بعطشي وجفاف غيمتي المصلوبة، فيغيب نعشي. أرى القبر مفتوحاً على سعته، وأرى الظّلام هارباً من ستاره الحائل، وحبل مشنقته يقطر مطراته السّادرة. أتعلق بالخوف والجزع وما تبقى من أستار اللّيل، وأُدرك أنني حيّ قصي. حينها ينتبه من غيبوبته ويتساءل: في أيّ الأزمنةِ أنا؟». على هذا الأساس يمكن فهم انفراط السرد في كثير من المفاصل، وانقطاع خيطية الحكايا. لأن نص «وحشة البئر» نتاج انتباهات بنائية مقصودة، يقوم عليها فعل الكتابة والمحو، والاسترسال والاستدراك، في مقابل غوصات لا إرادية عميقة في اللاوعي. وبقدر ما هو سيرة معاناة معبّر عنها بالتجنيحات اللفظية الدالّة، فيه التصاق بالوقائع وانغماس في تفاصيل العلاج والأدوية، التي لم تكن لتؤدي مفعولها لولا وجود طوق من الأهل والأحبة والأطباء حوله، ولولا إيمانه بالكلمات، التي صارت دليله لاكتشاف معنى الحياة. لم يكن حسن دعبل بمفرده عندما سقط في «وحشة البئر». فعندما انطفأت روحه ووهن جسده، لم يغادره ظلّه. بل كان محفوفاً بمن يسميهم قناديله. محاطاً بزوجته خديجة وشموسهما الأربعة. إذ يصف بهجته الناقصة لحظة حضورهن، بالفرح الخديج، بسبب إحساسه بالعجز عن إبهاجهن وهو «عمود خيمتهن». كما أبدت طبيبته يُسرى العوامي تفهماً استثنائياً لخوفه، ووعياً عميقاً بحاله جعلها تنجز العلاج في فترة قياسية. أما صديقه سعيد مع الذين تحنت كفوفهم بصبغة بابه من أثر الزيارات، الذين غسلوا عتبات بيته للاطمئنان. فاستحقوا منه تلويحة امتنان، بعد أن تتوّج بصحته وعافيته وهو يُنشد أغنيته «أقفُ في شُرفةِ الدُّنيا مُتسامحاً ومُحباً، مُتخلياً عن فكرة الخُلود». * ناقد سعودي.