"سطّحت هوليوود عقول الناس، في السابق كانت جريمة قتل واحدة كافيه للقصة. الآن يجب أن تقتل ثلاثمئة ألف شخص لكي تحصل على اهتمام الجمهور". أكي كاوريسماكي. يتردد بعض المخرجين –حتى المخضرمون منهم– في الاقتراب من بعض الروايات الكلاسيكية الشهيرة ربما خوفاً من المقارنة أو من أن يخفت بريق أعمالهم تحت وهج هذه الأعمال الخالدة. إلا أن المخرج الفنلندي أكي كاوريسماكي ذا الخمسة والعشرين عاماً آنذاك اختار بشجاعة أن يقدم فيلمه الروائي الأول على الإطلاق مستنداً إلى الرواية ذائعة الصيت (الجريمة والعقاب) الصادرة عام 1866 للروائي الروسي فيدور ديستوفسكي, والتي تحكي قصة شاب يرتكب جريمة قتل في مدينة سان بطرسبرغ الروسية ويحاول تبريرها أخلاقياً قبل أن يسلم نفسه للعدالة. المكان هنا هو العاصمة الفنلندية هلسنكي، أما الزمان ففي مطلع الثمانينات من القرن الماضي. الشخصية الرئيسية في الفيلم هو راهيكنن (ماركو تويكا) الشاب الذي يعمل في مسلخ ولا يبدو سعيداً بعمله –لا أحد يبدو سعيداً في الفيلم– ويقوم بتتبع الرجل الثري هونكانن (بينتي أور), ينتحل راهيكنن صفة ساعي بريد ليقتحم شقة المليونير ويشهر مسدساً في وجهه. يعرض الأخير عليه المال في محاولة يائسة ولكن راهيكنن يقتله بدم بارد. يسرق راهيكنن بعض متعلقات الضحية, نلاحظ أنه لا يبذل جهداَ لإخفاء بصماته بل إنه يحتفظ في جيبه بمنديل ملوث بدم القتيل. تصل ايفا (إينو سيبو) التي تعمل لدى متعهد للحفلات لشقة هونكانن حيث كان من المفترض أن يقام حفل عيد ميلاده في اليوم ذاته, تجد راهيكنن جالساً بهدوء في مكتب القتيل ليخبرها بلا مبالاة أنه قتله بل ويطلب منها الاتصال بالشرطة. قبل أن تتصل تطلب منه أن يغادر بسرعة!. فيدور ديستوفسكي لسنا أمام فيلم غموض وجريمة تقليدي نبحث فيه عن القاتل, فهو معروف بالنسبة للمشاهد منذ الدقائق الأولى من الفيلم. لكن الغامض في الفيلم هو دافع راهيكنن لقتل الرجل أولاً, ثم تصرفاته المتناقضة بين تسهيل الأمر على الشرطة ودفعهم باتجاه القبض عليه وبين محاولاته لتغطية الجريمة ودفعهم للاشتباه بشخص آخر والحصول على جواز سفر مزيف للهرب خارج البلاد. وأيضاً في محاولاته للتواصل مع ايفا التي تتعاطف معه وترفض أن تتعرف عليه في قسم الشرطة وتحاول إقناعه بتسليم نفسه والاعتراف بارتكابه للجريمة. بدا راهيكنن مصدقاً لزعمه بأنه مخول بالحكم وتنفيذ الأحكام على البشر رغم أنه يصف نفسه في حواره الأخير مع إيفا في السجن بأنه "حشرة" وأنه لا يخشى الوحدة فهو كان دائماً وحيداً. وكما فعل العديد من المخرجين الذين قاموا باستلهام بعض الأفكار من هذه الرواية مثل الفرنسي روبرت بريسون في فيلم (النشال Pickpocket) عام 1959 والأمريكي وودي آلن في فيلم (جرائم وجنح Crimes and Misdemeanors) عام 1989. لم يحاول كاوريسماكي أن يحاكي الرواية بدقة حيث إن أحداث الرواية معروفة للكثيرين بل اختار أن يستخلص بعض الأفكار الرئيسية كالخطيئة والتكفير والوحدة, واكتفى من الشخصيات بأن تعبر عن أفكارها بالحد الأدنى من الحوار، والذي جاء مقتصداً في كثير من الأحيان. وجاءت الموسيقى الرائعة ل "بيدرو هايتنن" بالإضافة لبعض الأغاني الغربية مكملة للجو الكئيب للفيلم. أكي كاوريسماكي قام أكي كاوريسماكي بكتابة السيناريو للفيلم بالاشتراك مع باولي بينتي وحاز بسببه على جائزة (يوسي) الفنلندية لأفضل فيلم أول وأفضل سيناريو. وفيلمنا هذا وإن كان أقل شهرة من الكثير من أفلام كاوريسماكي إلا أنه كان نقطة الانطلاق نحو تحقيق العديد من الأفلام التي حصلت على العديد من الترشيحات والجوائز العالمية؛ مثل (رجل بلا ماض-The Man Without a Past) عام 2002 الذي رشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي, و(لوهافر-Le Havre) الذي رشح للسعفة الذهبية في مهرجان كان, وغيرها من الأفلام التي حازت على الإعجاب الكبير من النقاد والمشاهدين على امتداد ثلاثة عقود.