من المعروف أن المياه الجوفية في باطن الأرض تفوق مجمل مصادر المياه العذبة فوق الأرض (بمافي ذلك الأنهار والبحيرات).. غير أن حالة الجفاف التي نعيشها منذ عقود تجعلنا نتحسر على آبار زمان - التي لم تتجاوز بضعة أمتار - وآبار هذه الأيام - التي تنزل لمئات الأمتار دون ضمان العثور على المياه!! ورغم وصولنا لأعماق سحيقة في الأرض إلا أنها تظل تافهة مقارنة بعمق القشرة الخارجية للكرة الأرضية.. فالأرض تتكون من عدة طبقات أهمها القشرة الخارجية، ثم اللزجة، ثم المنصهرة، وصولا الى النواة المكونة من الحديد والنيكل (وتعمل بمثابة مولد عملاق للغلاف المغناطيسي للأرض). وفوق القشرة الخارجية يعيش البشر، وتستقر الجبال، وتموج البحار، ويبني الانسان المدن وناطحات السحاب - رغم أن سمك القشرة الخارجية بالنسبة لحجم الكوكب كاملًا يعادل سمك قشرة التفاح للتفاحة نفسها... وفي حين لم تتجاوز معظم الآبار التي نحفرها - لاستخراج الماء أو النفط - عمق الألف متر يصل سمك القشرة الخارجية 70,000 متر (علما أن البحار تستقطع جزءا من هذا السُّمك).. والرقم الأخير وحده يؤكد أن علماء الجيولوجيا لا يعرفون الكثير فعلا عن الأرض - وأن حديثهم عن طبقاتها العميقة ليس أكثر من استقراءات علمية مهما اقتربت من الدقة لا تصل لمستوى الجزم والتأكيد.. لهذا السبب ظهرت مشاريع كثيرة لثقب الأرض من خلال حفر آبار هائلة يمكنها اختراق القشرة الخارجية والوصول لمستوى الصخور اللزجة (التي تتحرك فوقها القارات) .. وكان الروائي الفرنسي جول فيرن أول من اقترح هذه الفكرة الغريبة من خلال روايته الخيالية رحلة الى مركز الأرض (صورت كفيلم أكثر من 17 مرة).. وكان فيرن (الذي ولد بمدينة نانت عام 1828) قد تنبأ بالصعود الى القمر، واختراع الليزر، والغوص لاعماق المحيطات، واستكشاف الفضاء، والارتفاع ببالونات الاختبار... ولكن نبوءته بالوصول الى مركز الأرض صعب تحقيقها بسبب الأعماق السحيقة التي لم يتصور هو نفسه وجودها.. وظلت روايته مجرد حلم حتى تشكلت في بداية الستينيات لجنة أمريكية لدراسة إمكانات الحفر في قيعان المحيطات (كون سمك الأرض فيها أقل). وأول مشروع أنجزته كان أمام شواطئ كاليفورنيا ووصل لعمق 350 مترا وكلف ثلاثة ملايين دولار.. وعلى عدة مراحل تمكنت سفينة الحفر (Cuss) من استخراج طبقات (على شكل انابيب طويلة) لأحافير وأحياء كانت تعيش في البحر منذ عشرين مليون عام. ومنذ ذلك الحين تبنى الأمريكان مشاريع كثيرة للحفر في مناطق مختلفة أبرزها اختراق الطبقات الجليدية في القطب الجنوبي... أما على الطرف الآخر فكان للروس مشاريع مماثلة تحت بحر قزوين تجاوزت 5000 متر . وكان لهم أيضا مشروع جبار في جزيرة كولا الشمالية وصل إلى 12063 أمتار قبل تفكك الاتحاد السوفياتي.. وفي وقت لاحق شرعوا بتصميم مركبة من التيتانيوم تشق الأرض بالطاقة النووية ولكنهم صرفوا النظر عنها حين أدركوا أن الحرارة العالية ستغير التركيب الكيميائي للصخور وتتلف الاحافير القديمة !!! .. إن سألتني عن رأيي في الموضوع أقلْ بأن الدول المتقدمة تصرف بلايين الدولارات لاستكشاف الفضاء والبحث عن الكواكب الأخرى في حين لانكاد نعرف شيئا عن الأرض التي تحت أقدامنا.. ومهما تقدمت تقنيات الاستشعار (التي يستعملها العلماء لفهم أعماق الأرض) فليس مثل الحفر المباشر حيث تكشف كل بوصة عن عشرة آلاف عام من عمر الكوكب.. وقبل نهاية هذا القرن أتوقع نجاح الانسان في اختراق الطبقة الخارجية للأرض - ليس فقط لأننا سنملك التقنية اللازمة لذلك - بل لأننا نعيش فوق كوكب صغير مقارنة بكواكب تفوقه حجماً بعشرة وعشرين ... ومائة ضعف!!