من القضايا التي شغلتني - لفترة طويلة - محاولة التوفيق بين ما ورد في الكتب السماوية عن حادثة الطوفان، والمظاهر الجيولوجية التي تؤكد وقوع هذه الحادثة؛ فالإيمان بوقوعها لا ينافي التساؤل عن كيفية حدوثها ولا يعارض البحث بالكيفية التي انتهت بها (قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي). ومن أغرب الفرضيات التي مررت بها تلك التي قدمها عالم جيولوجيا متدين يدعى توماس برنت في نهاية القرن السابع عشر.. ففي ذلك الوقت لم ترق له فرضيات زملائه "غير المتدينين" بأن الطوفان كان "حادثة محلية" سببها فيضان وقع لبلاد ما بين النهرين في العصر الحجري.. فقد كان برنت يؤمن بعمومية الطوفان وتأثيره على كامل الكوكب - كما ورد في الإصحاح السابع من سفر التكوين (وفي الستمائة من حياة نوح وفي الشهر الثاني في اليوم السابع عشر انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم وانفتحت طاقات السماء وكان المطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة)! ولكن في المقابل لم يقتنع برنت ( 1635- 1715) بأن أربعين يوماً من المطر تكفي لتعبئة أحواض البحار والمحطيات.. واقتضى منه الأمر سنوات طويلة حتى اقتنع بالتفسير التالي: @ في بداية الخليقة كانت القشرة الأرضية رقيقة ملساء تسبح فوق محيطات مائية هائلة.. @ وهذا يعني أن كمية قليلة من المياه كانت تكفي لغمر كل اليابسة الموجودة - والصعود فوقها - في حال تشققت وغرقت بطريقة مائلة.. @ وهذا بالضبط ما حصل بعد فترة معينة حيث تصدعت قشرة الأرض (الرقيقة) فعلاها الماء وطغى فوقها (خصوصاً حين ترافق ذلك مع نزول قدر كبير من المطر)! .. وهذا التفسير يتوافق مع فرضية جديدة في علم الجيولوجيا تشرح تكون كوكب الأرض ذاته.. فكوكب الأرض خلق من مادة الكون الأولى المعروفة بالدخان أو السديم الكوني؛ وبعد ذلك هبطت العناصر الثقيلة إلى "المركز" مكونة نواة الكوكب الصلبة في حين انفصل الماء إلى الأعلى - لأنه الأخف - وأحاط بنواة الأرض.. وحتى ذلك الوقت كانت الأرض كوكباً للمياه لا أثر لليابسة عليه.. ولكن الطبقات الجوية المحيطة بالكوكب كانت محملة بكميات هائلة من الغبار والتراب والعناصر المعدنية التي تستقطبها من الفضاء . وخلال ملايين السنين ترسبت تلك الأتربة على الماء - الذي كان لزجاً لاختلاطه بالعناصر الرئيسية لمادة الأرض - وتشكلت اليابسة بالتدريج حتى أحاطت بكامل الكوكب (لدرجة لم يعرف الناس حينها البحار وكانوا يمرون على نوح ويتساءلون عن سر الهيكل الخشبي الذي يصنعه)... وهذا الترسيب التدريجي لليابسة جعلها ملساء مستوية - ما عدا بعض الشواذ الصاعدة - كونها لم تتعرض بعد لحوادث جيولوجية أو مناخية عنيفة. وفي هذا العصر الهادئ ظهر قوم نوح وبطرت معيشتهم - وحين انحرفوا عن أمر الله كانت الشمس قد شارفت على إنجاز مهمتها في تسخين المياه المحصورة تحت القشرة السطحية.. وفي اليوم الموعود لم تعد اليابسة قادرة على كبت تمدد المياه فتشققت في عدة مواقع وغرقت (كما يغرف اللوح المسطح) فتفجر الماء من كل مكان. وبهذه الطريقة غرقت معظم اليابسة وغمر الماء كوكب الأرض ولم ينج من الطوفان إلا من ركب مع نوح في السفينة (وهي تجري بهم في موج كالجبال)...