علاقة مفاهيم مثل الحضارة والتحضر بشأن الإنسان اليومي وطريقة إدارتنا لحياتنا معقدة وملتبسة، فمن نظرة متطرفة جوهرانية ترى أن الإنسان المتحضر هو الإنسان الأبيض الغربي الذي يعيش الحياة الحديثة، إلى نظرة أخرى تبدو متطرفة كذلك تعتبر أن التحضر والحضارة مفاهيم غير معيارية ولا يمكن قياسها، وبالتالي لا يوجد ما هو "بربري" أو متخلف. ما الذي يجعل الإنسان الذي يعيش في مدينة كنيويورك أو طوكيو أكثر تحضرا من المزارع الأفريقي أو البدوي العربي في صحرائه مع جماله؟! وقد يبدو السؤال أكثر تعقيدا عندما نتحدث عن من يعيش حياة بسيطة بعيدة عن استخدام أدوات الحياة الحديثة وتعقيداتها في الدول التي تعتبر متحضرة، وأعني هنا مجتمعا كمجتمع الآمش في الولاياتالمتحدة وأفراده الذين ما زالوا يعيشون حياة بسيطة بدون كهرباء أو هواتف محمولة أو وسائل مواصلات حديثة. يشغلون آلاتهم باستخدام طاقة ميكانيكية تولدها الأحصنة، ويركبون عربات تجرها الخيول في تنقلاتهم، ويقتاتون على ما يبيعون من مزروعات ودواجن! من هنا تبدو أطروحة "تزفيتان تدوروف" حول التحضر والبربرية أكثر منطقية، فهو لا ينفي البربرية، ولا يجعل مفهوم الحضارة غائما وعائما كما يفعل أكثر من تناولوا هذا المصطلح، بل يحدد الحضارة بأنها سلوك التعامل مع البشر كبشر. أي أن الإنسان البربري (عكس المتحضر) هو من يسلب الآخر "الإنسان" إنسانيته. هنا يتساوى الجميع بكل مستوياتهم وطبقاتهم وأنماط حياتهم. فمن يسلبك حقك في الحياة الكريمة ويقتلك أو يضطهدك هو البربري، أكان يفعلها في أدغال أفريقيا القصية، أو في وسط أوروبا أو الولاياتالمتحدة، أو عبر الحدود عن طريق أسلحة الفتك الحديثة والطائرات بدون طيار التي أدخلتنا عهد عولمة الحرب والتحكم بها عن بعد آلاف الأميال. مسألة الحضارة والبربرية ترتبط بالسلوك، بالتعامل مع الآخر، ليست جوهرانية، بل قابلة للتغيير، ولكن لا علاقة لها بالأدوات المستخدمة في النفي والإقصاء، بل بمضمون القيم التي نعتنقها اليوم.