تعد "شواجن" أو آبار اللصافة أحد أشهر موارد المياه في صحراء الصمان، وشكّلت يوماً من الأيام أهم تلك الموارد وملتقيات البادية، ويفتخر أهلها أن "ريمات" إبل الملك عبدالعزيز شاركتهم الشرب منها بضع سنوات، وإن تعطّلت منافعها في وقتنا الحاضر، إلاّ أنها بقيت تحتل مساحة في وجدان بعض من عرفها وترعرع فوق ترابها، وبقي هذا الحب لغزاً من ألغاز الطبيعة، لا يشبهه سوى حب جارهم.. ذلك البدوي الذي دفع به والده يوماً من أيام الثمانينات لسُقيا إبله في الصحراء، وعندما وصل إليها نأى بثقل صهريج الماء العملاق خلفه، ووجد الإبل ترتع إلى جوار ربوة في دبادب الصمان كانت قد دفنت فوق سفحها "معشوقته" التي أحبها، وأحبّ تراب أرضها، وبدلاً من سقي الإبل العطشى، فرّغ كل الماء فوق تراب قبرها حتى شعر لحظتها بلذة براد الماء، وكأنها تسري مسرى الدم في شرايين قلبه، قبل أن يعود ليرمي مفتاح الصهريج في أحضان والده ويقول له "أدرك إبلك يا والدي قبل أن تموت من العطش"!. وسط جمهرة «المقطان» تبدأ «شفرة الحب» بأبيات الشعر وألوان الغناء أمن مائي وكان امتلاك أحد موارد المياه، مثل "آبار اللصافة" ضمن حدود التقسيمات القبلية في الجزيرة العربية يعد مشروعاً استراتيجياً من مشروعات الأمن المائي للقبيلة وحلفائها، ومن ممتلكاتها التي لا يصح لأي شخص من قبيلة أخرى أن يرده أو يشرب منه، إلاّ بإذن القبيلة، ويُعدُّ السماح للغرباء تفضلاً منهم ومعروفاً يُحفظ لها طوال العمر، وكثيراً ما تنشب معارك وصراعات دموية بسبب تعدي أفراد قبيلة على حقوق أخرى تمتلك المورد، أو محاولة الشرب بالقوة. جعل الحيا يسقى جباك اللصافه هاك القليب اللي دليبح طواها اسم اللصافة وعن اسم "اللصافة" الواقعة ضمن حدود "الدبدبة" التي يشملها اسم "الصمان" تقول كتب التاريخ إنه أُخذ من "اللصف"، وهو تمر نبات "الشفلح" الذي كانت تنبته أرضها، وكانت في الأصل بئرا جاهلية أقطعها الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- للشيخ والفارس "صاهود بن لامي" وجماعته في عشرينيات القرن الماضي، وعمد إلى استنباطها مرة أخرى، وتلاها آبار أخرى إضافة إليها وأبرزها "الحقباء"، "الرقباء"، "المطيوي"، و"الملحاء"، ويصل أعماق بعضها إلى ما يقارب (50) متراً، وفقاً لما ذكره "جاسر بن لامي" -رئيس مركز اللصافة حالياً- الذي أوضح أن هجرة اللصافة تعود أهميتها السابقة والحالية كونها تتوسط المراعي الخصبة، ومتنزهات الربيع، ومنابت الفقع، وتُعد حالياً إحدى هجر الربيع المعروفة، ومن أهم المنتجعات البرية الشتوية المشهورة على مستوى المنطقة التي يقصدها المتنزهون من مختلف أرجاء المناطق وبعض دول الخليج، وأُعتمد لها مركز إمارة عام (1401ه)، إضافة إلى توفير خدمات صحية وتعليمية وأمنية وبلدية وخدمات المياه والاتصالات والكهرباء التي تنعم بها معظم هجر المملكة. كانت مقصداً لتجارة البادية.. واليوم تتوسط المراعي الخصبة ومتنزهات الربيع ومنابت الفقع شواجن اللصافة وتحمل ذاكرة بعض المسنين ممّن قطِنوا اللصافة قبل أكثر من خمسين عاماً في طفولتهم صورة تلك الأجواء الجميلة التي عادة ما ترافق لحظة "المقطان" في الصيف عند ما تشتد حاجة البدو ومواشيهم إلى الماء، ويتحول فضائها الواسع إلى مدينة صاخبة يختلط ليلها مع نهارها تنهض فجأة على ضفاف رمالها تُعمّر بالحركة والضجيج على مدار الساعة، وفي فترة الصيف كاملاً يرتاح البدو من عناء التنقل والرحيل، ويجدونها فرصة للَّقاء والتواصل وتبادل الزيارات والتعارف وعمليات المقايضة والبيع والشراء، وتقام غالباً أفراح الزواج وتظل منابع أو آبار الماء أشبه بأسواق المدن الكبرى في الوقت الحاضر، أو مهرجان كرنفالي عندما يعج بالبشر رجالاً ونساءً وأطفالاً، حيث يختلط حداء الفتيان وهم (يمتحون) دِلاء الماء بمعزوفات السواني، ورِغاء إبلهم العطاشى متواصل، وهناك يرتفع صوت منادٍ من مكان قصي فقد شيئاً مهماً وهو يردد "يا من عيّن الذاهبة جزاه الله خير" وهي كذا.. -يذكر أوصاف ماشيته-؛ فيرد عليه آخر بنفس طبقة الصوت "ابشر بذاهبتك يا راعي الذاهبة".. أو يصيح آخر محذراً من أن الجو الفلاني القريب منهم "هد عليهم الذيب" ليلة البارحة، وذبح سبعاً من الغنم، وعليهم توخّي الحذر، وهم يعرفون أن الذئب بفطرته إذا هاجم مكاناً عاد إليه ليلة أخرى. إحدى وسائل الشرب المبنية من «الجص» و«الحجر» غزل واستعراض وفي غمرة هذا الكرنفال الصيفي، يستحضر الفتيان وهواوية "القطين" كل مشاعر العشق العفيف، وهم يتوقعون وجود معشوقاتهم وسط جمهرة "المقطان" أو يلمحون وجودهن من بعيد، وهنا لابد أن يؤدوا بعض استعراضات التقرّب، إما بإظهار عضلاتهم المفتولة وهم يُضاعفون جهودهم عند حافة البئر بحركات راقصة، وشعورهم المجدولة تتطاير مع هبات النسيم، أو يرفعون أصواتهم بألوان الغناء التي لا بد أن يحمل أحد أبياتها شفرةً لا يدركها سوى الاثنين!. آبار اللصافة تعطلت منافعها ولكنها تحتل مكانة في نفوس أهلها توافد الروّايات وفي المقابل، تتقاطر فتيات القطين (الروّايات) في ساعة من النهار يعرفنها ويتفقن عليها، وهنّ يحملن قِربَ الماء وقُدور الري، ويتزاحمن عند مَصابِ الدِلاء، وهنّ يعرفن قاعدة الصحراء "قدر المزيونة يُملأ أولاً"؛ فيتسابق كل فتى على ملأ قدر مزيونته ورفعه فوق رأسها بعد أن يعدّل "الحصرة" وهي قطعة قماش تفصل بين ثقل قدر الماء ورأس الفتاة، وفي حال عدم وجود الوقاية أو الحصرة فمن الممكن أن يتنازل عن شماغه أو عمامته ليصنع منه حصرة تقِي رأس فتاته، وفي هذه الأثناء حتى من لا تحتاج للماء من بعض الفتيات، تحمل قربتها أو إناءها وتنطلق إلى البئر؛ لتستمتع بصخب الجمهرة، وأجوائها الجميلة، وتجدها فرصة لمشاهدة من تحب، وبالتالي فإن مثل هذه الفتاة من الممكن بعد ما تملأ قِدرها بالماء أن تسكبه في منتصف الطريق وتعود مرة أخرى وثانية وثالثة؛ حتى تبقى أطول فترة تستمتع بهذا التجمهر. من أوائل السيارات التي دخلت «اللصافة» في فترة الستينات الميلادية مداعبات شعرية ومن طرائف الروايات المرتبطة باللصافة، ما حدث بين الشاعر "زيد بن غيام" قبل أكثر من مئة عام، وشاعر آخر من اصدقائه وجماعته -رحمهما الله-، وتحصل بينهم أحيانا مناكفات ومساجلات شعرية في إطار أخوي لا يتعدى حدود المداعبات الطريقة، وأبرزها عندما أرسل هذا الشاعر قصيدة أراد أن يستفز بها صديقه "زيد" الذي يعرف مقدار عشقه ل"اللصفة"، وقال: جعل الحيا يخطي جباك اللصافه هاك القليب اللي طويل رشاها وردت مع ذودي توامي شعافه وصدر (فلان) وقربته ما ملاها فرد عليه "زيد" بنفس القافية بقصيدة قال ضمنها: جعل الحيا يسقى جباك اللصافه هاك القليب اللي دليبح طواها يشرب على الحقبا ثمانين زافه والزافه الأخرى تزهب دلاها (يا فلان) بذيت العرب بالضيافة على الذلول اللي تحوف اقصراها وفي بيتك اللي مثل ذيب الجرافه سودا تلوث السانها في جماها تصرف المرأة الضحية بئر قديمة استخدمت في فترة قريبة لري أهل الهجرة وكان قد قسا كثيراً على زوجة صديقه في البيت الأخير، حيث كانت عكس ما قال، بل إنها امرأة جميلة جداً، وعندما نُقل إليها بيت الشعر قالت "نذر على رقبتي إن شفت زيد بن غيام إني أظهر أمامه وأكشف له عن وجهي حتى اثبت له ظلمه لي"، ولم يمض طويلاً حتى حل زيد ضيفاً على صديقه الشاعر الآخر، وعندما علمت بوجوده مع زوجها ظهرت عليهما، ورفعت الغطاء عن وجهها فكانت بالفعل امرأة بديعة الجمال ناصعة البياض، خلاف ما ذكره، وقالت له أنا "ذيبه وسوداء يالظالم"، فرد عليها، وقال "زيد": أنا أشهد إني ظلمتك يابنت الأجواد.. حدني عليك زوجك ظلمني فظلمتك.. لكن والله إن أغلى ما عندي ذلولي خذيها مني ثمناً لظلمي لك"، فردّت "ذلولك تسلم لك يابن غيام وتراني سامحتك". حال الآبار بعد أن كانت تحظى بحراسة ولا يشرب منها إلاّ بإذن زيارة الدنمركي في أوائل سنة (1912م) المستشرق الدنمركي "باركلي رونكيير" بئر اللصافة، في رحلته المشهورة ووصفها بكتابه "عبر الاراضي الوهابية على ظهر جمل" فيقول: وصلنا في الساعة الثامنة منطقة صخرية مرتفعة، لا يدل مظهرها على وجود أي ماء، فيها حيث إنها جافة وقاحلة، وفجأة وجدنا أمامنا وادياً على شكل أبريق ضخم محوطاً بصخور قائمة ذات لون أبيض يميل إلى الاصفرار، وحتى قاع الوادي كان صخرياً رملياً قاحلاً ما عدا منطقة في وسطه نبت فيها عشب أخضر كثيف، يشكل تناقضا ملحوظاً مع المنطقة حوله، وفي منتصف الطرف الداخلي للخضرة كانت هناك بقعة سوداء تحوطها دائرة رمادية، إنها بئر اللصافة المشهورة، ظهرت أقدام الناس وآثار حيواناتهم حول البئر بشكل واضح، اتخذت جمالنا طريقها بشكل متعرج تنحدر بتؤدة وحذر عبر الممر الصخري القائم بجانب الصخور المرتفعة، توقفت القافلة عند البئر وأقبلت الخيول على العشب الاخضر تلتهمه بسرعة ونهم، إن هذه البئر هي الوحيدة في دائرة قطرها مائة كيلو متر، ويرد عليها ليس فقط القوافل، بل يأتيه البدو من كل المناطق المحيطة، وأي أناس يخيمون قربها يكونون عرضة للهجوم، ولهذا اتخذ الحراس أماكنهم للمراقبة فوق الاماكن العالية المحيطة بالمكان، وعلى الرغم من ذلك فإن كلمة "قوم"، وهي صفارة الإنذار في الصحراء بقيت تتردد وتبعث الرعب في النفوس، وجدنا حول البئر آثار مخلفات الجمال، ورماداً مازال حاراً؛ مما يدل على أن زواراً وصلوا قبلنا بوقت قليل وارتحلوا قبل وصولنا؛ الأمر الذي وفّر علينا صداماً معهم. أبقينا جمالنا بدائرة صغيرة وعقلنا أرجلها، بينما راح رجالنا يملؤون قِرب الماء من البئر، بمصاحبة حدائهم ذي اللحن الواحد.. ويبلغ عمق البئر ثلاثين متراً وعرضها ثلاثة أمتار وقد اكتسى الجزء الأعلى منها بحجارة، وكان الماء يصب من الدِلاء إلى القِرب مُصدراً صوتاً منعشاً، وكان الرجال يَروحون ويجيئون بقِربهم اللامعة، ويتحركون بين أكوام من المتاع يصك آذانهم رغاء الجمال، وتلفح وجوههم ألسنة اللهب المتصاعد من النار التي أوقدها الركب. بئر اللصافة تمتد الى عمق 50 متراً جاسر بن لامي