عندما تمعن النظر في إحدى الآبار القديمة داخل مزرعة بقيت شاهدة على عصر إنسان ما قبل «الطفرة»، وظهور النفط، لابد أن تأسرك الطريقة الهندسية الرائعة في بناء جوانب البئر التي طويت بالحجارة بشكل هندسي بديع، كما يوحي بحس فني في براعة البناء في تلك الحقبة السابقة، وشاهداً على مدى الاتقان الذي يبذله إنسان هذا الوطن وارتباطه منذ القدم بالزراعة -التي كانت فيما مضى المصدر الوحيد للعيش في ظل شح الموارد البيئية في منطقة معظمها صحراوية-؛ فكان خيارهم الوحيد هو حفر الآبار التي لم تكن وليدة اللحظة، بل كانت امتدادا طبيعيا لخبرات مختزلة منذ القدم؛ فكان العمل شاقاً بكل ما تعنيه الكلمة.. بدءاً من اختيار مكان الحفر، مروراً بالحفر، ثم طوي الحجارة على جوانب البئر، حيث أبهرت المعاصرين لدقة رصها وبنائها باحترافية؛ على الرغم من قلة مواد البناء في ذلك العصر والأدوات التي تساعد في ذلك، فالحجارة تقطع من صخور الجبال بطريقة هندسية رائعة وبأدوات بسيطة؛ لكن العبء الأكبر كان على الإنسان بقوته وصبره وتفانيه بعمله؛ مما ينم عن حس مهني وبراعة في البناء الى آخر الأعمال الأخرى التي تسبق انسياب المياه على سطح الأرض، ومن ثم الزراعة التي كان يطلق عليها آنذاك «الكدادة». حفر القليب يملك بعض الناس ممن حباه الله الدراية بأماكن المياه الجوفية خبرة يستطيع من خلالها تحديد المكان الذي سيكون مناسباً لحفر «القليب»-أي البئر-، وذلك بالجس أو ما يسميه القدماء «الصّنت»، وإن كانت القلبان تحفر في أي مكان فيخرج الماء عادة إلاّ أن البعض يحرص على أن تكون مياه قليبه غزيرة، ويستعمل أدوات خاصة بهذا العمل، وقد يستدل على مكان البئر بوجود شجرة خاصة يكون جذرها عميقاً يبحث عن الماء -أي ينزل إلى الأرض عمودياً لعدة أمتار ليصل الى الماء-. ويستعمل لحفر البئر أدوات خاصة مثل «الهيب» و»المرزبه» للحفر، و»المحفرة» لنقل التراب من أسفل البئر عن طريق حبال مصنوعة من الًليف «ليف النخيل»، بالاضافة إلى «مسحاة» لتجميع التراب والحصى في أسفل البئر لوضعها في المحفرة ليناولها من أسفل البئر إلى من يكون أعلاة ليفرغها، ومن ثم ينزلها لمن يحفر ليملأها مرة أخرى وهكذا.. وبعد الوصول الى الماء وسط تباشر الجميع وفرحهم يتم توسعة مكان تجمع الماء بشكل دائري ويعمق، بحيث يكون هناك مكان يسمع بدخول الدلو أو الغرب داخل عين الماء ليمتلئ قبل رفعه، وكنتيجة للتطور في جميع المجالات فقد بات حفر البئر عن طريق زرع أصابع «الديناميت» وتفجيرها، ومن ثم اخراج التراب، وقد كلفت هذه الطريقة السهلة حياة الكثيرين فعند زرع اصابع «الديناميت» قد تتأخر فلا تشتعل أحياناً كثيرة فينزل أحدهم لاصلاحها فتنفجر فيه فيموت. حجارة «الطوي» تبدأ من أسفل البئر إلى أعلاه بحس فني يجيده «استاد البناء» ويبقى قروناً من الزمان الطوي بطريقة هندسية بعد الانتهاء من حفر البئر تأتي مرحلة بناء جوانب البئر بالحصى وتسمى «الطوي»؛ أي يطوي جوانب البئر بالحصى الذي يقطع من جبال معينة وبمقاسات معينة أيضاً، وسماكات يحددها المسؤول عن البناء -الذي كان يسمى آنذاك ب»الأستاد»؛ أي أستاد البناء، وهو يماثل المهندس المعماري في أيامنا هذه، ويبدأ العمل في ذلك من أسفل البئر عند مكان يحدده استاد البناء، وهو من بدء الأرض الصخرية التي تتحمل رص الحجارة فيضع الأساس بحجارة كبيرة نسبياً، وترص بعناية على شكل دائرة، ومن ثم يوضع فوقها حجارة أخرى متخالفة؛ أي لا توضع الحجارة على الحجارة نفسها الأولى، بل توضع على حجرين متجاورين حتى تتشابك ولا تقع، ولا يستخدم بين الحجارة أي مادة لتتماسك مع بعضها البعض، بل يكون البناء عن طريق الرص المحكم والتثبيت، ويستمر رص الحجارة إلى أن تبلغ فوهة البئر وسطح الأرض. «الزرانيق» والمحالة والرشا بعد ذلك تأتي عملية بناء «الزرانيق»، وهما عمودان أو أربعة أعمدة -من كل جهة عمودان-، وتُبنى من الحجارة والطين، ومن ثم يوصل بين كل عمود وآخر يقابله من الجهة الأخرى بجذع من النخل، ويسمى «نبع»، وذلك لتثبيت «المحالة» التي تُصنع من الخشب، وهي تشبه العجلة ولها أسنان مثبتة في محالة بداخلها، ويكون في أطراف المحالة فجوة لمرور «الرشا»، وهو حبل من ليف النخل مفتول كالحبل، ولا يسمح بخروج الرشا أثناء دورانها، ومن ثم يوضع محور دراجه بجانب «اللزا» ويثبت بدراجة تربط ب»السريح»، وهو يُصنع من جلود الجمال، وبواسطة «المحالة» يُستخرج الماء من البئر عن طريق «الغروب» التي تُصنع من جلود الحيوانات؛ فالغرب مدور الشكل وله فتحتان وطوله متر تقريباً وأعلاه أوسع كثيراً من أسفله، وتثبت فوهته بقطعتين من الخشب متقاطعتين ويربط بهما حجارة بحجم قبضة اليد؛ ليسهل نزوله وغوصه في الماء في قاع البئر، وبعد سحب الغرب تغلق الفتحة الصغيرة أسفله حتى يبلغ الغرب اللزا؛ فتفتح ويصب منها الماء في اللزا، وعندما تنتهي عملية بناء «الزرانيق»، وتثبت المحاحيل والدراج وتعليق الغروب تأتي عملية بناء اللزا، وهي عبارة عن بركة صغيرة لتجميع المياه التي تصب من الغروب وهي ذات جدران قصيرة بارتفاع نصف المتر تقريباً ومن ثم تصب في الجابة التي تخرج منها فتحة إلى الساقي الرئيس الذي يغذي المزروعات بتفريعاته الكثيرة؛ ليعم جميع أنحاء المزرعة ويوضع بجانب اللزا أو الجابية بركة صغيرة تسمى «المصفاة» الغرض منها غسل بعض المنتوجات الزراعية وما يحتاج إلى تنظيف، ويوجه المزارع الماء الذي يخرج من البئر إلى اللزا، ثم السواقي إلى شروب الزرع التي هي مستطيلة الشكل أو مربعة، وكل شرب يتم زراعة نوع من المزروعات الصيفية أو الشتوية، وتمر السواقي في طريقها إلى عدد من أشجار النخيل فتسقيها وتروي عطشها. المنحاة ومن ملحقات البئر «المنحاة» وتكون بعد اللزا، وهي حفرة كبيرة بيضاوية الشكل مخصصة لمرور الحيوانات التي تسحب الغروب من البئر لتصب في اللزا، وتكون واسعة لمرور اثنين من الحيوانات ذهاباً واياباً فهي تسحب الغروب وتجعل اللزا خلفها حتى تصب الغروب في اللزا، ثم تعود أدراجها حتى تصل إلى اللزا؛ مما يسمح للغروب بالغطس في قاع البئر لتمتلئ من المياه لتقوم بالعودة لاخراج الغروب وهكذا دواليك حتى تتم عملية سقي المزروعات. ويتولى الإشراف على سير الحيوانات شخص عادة ما يكون له مسار في منتصف المنحاة يقسمها نصفين، ويكون مرتفعاً بمقدار نصف المتر أو يزيد؛ فيمشي عليه ويسير مع الحيوانات حتى تصل الى آخر المنحاة؛ فتخرج الغروب، وتصب في اللزا، ثم يعود أدراجه لتمتلئ الغروب بالماء فيعيد الحيوانات إلى آخر المنحاة لتصب في اللزا، ويستمر عمله بمراقبة الحيوانات إلى أن تنتهي عملية السقي، وغالباً ما تكون تلك الحيوانات من الابل، ويُبنى في آخر المنحاة في الجهة البعيدة من البئر حوض صغير يتم فيه وضع طعام للحيوانات لتأكل منه عند التوقف عن العمل، أما طول المنحاة فيكون بطول البئر، وعندما تشاهد المنحاة تستنتج منها طول البئر، وقد يكون لبعض الآبار منحاتان متقابلتان إذا كانت البئر واسعة بحيث يصدّر منها أكثر من غربين كاربعة أو ستة وأكثر، ويقال لمن يعمل على اخراج الماء من البئر بهذه الطريقة (يسني)؛ أي يستعمل السواني لسقيا المزروعات، وعادة ما تبدأ مهمته قبل صلاة الفجر. صوت موسيقي وللسواني صوت موسيقي بما تعنيه الكلمة؛ فالمحاحيل تصدر صوتاً موسيقياً ينتج عن طريق دهن المحاحيل بالودك، وعند مرور الحبال التي من الرشا أو (القد) الجلود تصدر صوتاً شجياً يدخل البهجة إلى النفس، ويعين كل من الانسان والحيوان على اتمام عمله بكل همة ونشاط، فعندما تمر بالمزارع تتلذذ بسماع صوت السواني الشجي، فما أن تسكت سواني إحدى الآبار إلاّ وتبدأ الأخرى بمجاوبة الأخرى؛ مما يشيع جواً من البهجة والفرح. وفي ذكر السواني والغروب يقول الشاعر «محسن الهزاني» في قصيدة مشهورة رائعة: جريت انا صوت الهوى باحتمالا في وسط بستان سقته أربع فرق وطبيت مع فرع جديد الحبالا وظهرت مع فرع تناوح به الورق ويقول الشاعر «سويلم العلي السهلي» واصفاً معاناة أهل الزروع والسواني: هذا وجودي وجد من له مواحيل من عقب ماهي ذود صار قسوم أو وجد من صدّر على أربع محاحيل لها ليا غاب الرقيب معلوم صدّر على أربع مايةٍ كلها كيل حب ٍحمر تسقي نواصيه كومِ أربع عقايبها أربع كنس حيل يشيلن الما في وساع الكموم يوم استتم الزرع شال النما شيل نشت بردها كبر روس البهوم وهلت على وسط المفالي هماليل وصارت على روس النواحي رجوم واللي بقى من حبها شاله السيل غثو السبل بالسيل مثل الهدوم قليب السقيا وقد يوضع على القليب التي في غير المزارع، ويكون لسقيا الناس أو الماشية «دلو»، وهو مصنوع من الجلد، وعادة ما تكون البئر صغيرة وقريبة الماء، وهي في أطراف البلدان، أو في موارد المياه، ويسمى أيضاً «عدّ» في البراري؛ لسقيا البادية ومواشيهم، ولا يحتاج هذا البئر إلى زرانيق أو بناء كما على البئر التي تستعمل الغروب أو السواني؛ فيكفي فقط أن ينصب على جوانب البئر عمودان من خشب أو حجارة ويربطان بعمود فوقهما، وتعلق به المحالة، وينظم به الرشاء أو الحبل الذي يربط بالدلو، كما لا يحتاج إلى حيوانات لتسحبه، بل يسحبه الإنسان نظراً لخفته، وتسمى عملية السحب بالزعب، وتزدحم تلك الموارد والآبار بالعديد من الناس الذين يملأون قربهم عن طريق الدلو وغالبهم من النساء. تقول الشاعرة «نورة الحوشان»؛ متذكرة أيامها الجميلة بين السواني والأشجار والماشية والثمارعند مرورها بجانب بستان زوجها -الذي فارقها بالطلاق-؛ ليعقب ذلك ندم من الجميع: يالعين هلي صافي الدمع هليه وإلى قضى صافيه هاتي سريبه يالعين شوفي زرع خلك وراعيه هاذي معاويده وهذي قليبه المكائن بديل السواني ومنذ أكثر من نصف قرن تقريباً حلّت الآلة مكان السواني؛ فتم استيراد مواطير «ليستر»، وغيرها لسحب المياه من أسفل البئر؛ فتم الاستغناء عن السواني والغروب والدلو والحيوانات في اخراج الماء؛ فصارت هذه المواطير تخرج من الماء في دقائق ما يخرجه الساني في يوم كامل، ولكن كان لهذه الطريقة خطورة بالغة على حياة من يشغل هذا الماطور من أسفل البئر؛ فتم حفر «عب» أو «دحل» من الأرض إلى أسفل البئر ينزل معه من يريد أن يشغّل الماطور، بعد ذلك يسرع في الخروج حتى لا تكتم أنفاسه رائحة الديزل، وقد راح ضحية هذا الماطور العديد من الأرواح التي لم تتمكن من الخروج بالسرعة المطلوبة، بعد ذلك جاءت مكائن اخراج الماء مثل (البلاكستون) الآمنة التي توضع في غرفة صغيرة لحمايتها بجانب البئر، ويُمد منها سير يثبت في «طرمبة» الماكينة الذي يشفط الماء في منتصف البئر عن طريق ماسورة تنزل إلى أسفل البئر، وقد كان لهذه الماكينة صوت مميز يخرج من شكمانها الذي كان المزارعون يغطونه بعلبة ترتفع عنه قليلاً فيصدر صوتاً شجياً بصدى يسمعه المزارع في أي مكان من مزرعته؛ وقد ينقطع هذا الصوت أو يتغيّر عند انقطاع سير الماكينة أو انتهاء الوقود أو عطلها فيعود المزارع مسرعاً ليصلح العطل. يقول شاعر الوجد «عبدالله بن سبيل» في وصف ذلك من قصيدة له: وتقاطروا مثل الحرار المقاييف وراعي الغنم عن مرحهم يفهقونه وتواردوا عد ٍشرابه قراقيف العد لو هو بالفضا يشحنونه وكل ٍنصا القرية يدور التصاريف واللي له أحباب ٍلباب ٍيجونه تسعين ليله جانب العد ما عيف ولا للشديد مطري ٍيذكرونه إحدى الآبار القديمة داخل مزرعة بقيت شاهدة على عصر إنسان ما قبل «الطفرة» البئر والزرانيق حولها (المنحاة) حفرة كبيرة بيضاوية الشكل مخصصة لمرور الحيوانات التي تسحب الغروب من البئر لتصب في اللزا السواقي يسير بها ماء البئر بئر عميقة استعمل لحفرها «الهيب» و«المرزبة» و«المحفرة» حبال الليف حجارة أثرت فيها حبال سحب الماء (اللزا) بركة صغيرة لتجميع المياه التي تصب من الغروب وهي ذات جدران قصيرة بارتفاع نصف المتر تقريباً ماكينة البلاكستون يُمد منها سير يثبت في «طرمبة» الماكينة ويشفط الماء في منتصف البئر عن طريق ماسورة تنزل إلى أسفله بئر مطوية بالحجارة نخيل تشرب من ماء البئر الهيب أداة حفر البئر الدلو