لم نجد مقدمة أشمل وأعذب من قصيدة شاعر الوجد عبدالله بن سبيل -رحمه الله- وهو ينقل لنا وصفاً مباشراً بالتفاصيل الدقيقة عن حدث «كرنفالي»، يتكرر صيف كل عام بمثل هذا الوقت من السنة عند أبناء البادية، بعد أن رصد تحركاتهم للفصول الأربعة طوال السنة مرحباً بالحدث الأهم عندهم، والمعروف ب»المقطان» وهو لحظة تجمع أبناء البادية على موارد المياه صيفاً، والذي يترقبه هؤلاء مثلما يترقبه تجار المدن والقرى ومعهم «الهواوية» أو «خضران القلوب»، الذين تجتاحهم نوبة من «سكرات العشق» لا يفيقون منها إلا بعد «ثلاثة أشهر» على صوت المنادي وهو يعلن مجيء ساعة «الرحيل المر» حتى لا يبقى أمام أحدهم إلا اللجوء إلى تلة رملية «يتكوبع» عباءته، ثم يجثو على ركبتيه «يهل عباري» الوجد وهو يتابع تواري «مظاهير» محبوبته يتلاشا شيئاً فشيئاً حتى يختفي تماماً خلف بحر الرمال الموحشة: فتاة لحظة الغزل على المورد: إليا نزلنا ليال الصيف***يملا النظر شوف عشيقي سقوى إلى جت نقضة الجزو بالصيف وابعد ثرى نقعه وكنَّت أمزونه والعشب تلوي به شعوف من الهيف والشاوي أخلف شربته من سعونه وجتنا (جرايرهم) تدق المشاريف البيت يبنى والظعن يقهرونه وتقاطروا مثل الحرار المقاييف وراع الغنم عن مرحهم يفهقونه وتواردوا (عدٍّ) شرابه قراقيف العد لو هو بالفضاء يشحنونه وكل نصا القرية يَدَور المصاريف واللي له أحباب البابً يجونه (تسعين ليلة) جانب العد ما عيف ولا للشديد مطري (ن) يذكرونه وهبت ذعاذيع الوسوم المهاريف واسهيل يبدي ما بدا الصبح دونه وجاهم من القبله أركيبٍ (ن) مواجيف واحضور يوم ان النخل يصرمونه والعصر بالمجلس مضال وتواقيف وأمسوا وتالي رايهم يقطعونه والعصر طوَّن البيوت الغطاريف والمال قدَم أطلاقته يصبحونه وراحوا مع الرَّيدا وساع الاطاريف يذكر لهم مندىً شبيع يبونه مقياضهم خلي بليا تواصيف قفرٍ عليه الذيب يرفع الحونه أويَّ جيرانٍ عليهم تحاسيف لو أنهم قلب العنا يشغفونه القطين والمقطان خيام القطين بالقرب من أحد موارد الماء ابن سبيل يصف «راعي الثوب الحمر»: تجر ثوب البز واعظم بلواه***لو كان قلبي ممحلٍ ربعت به يعرف هذا التجمع السنوي الذي تفرضه حاجتهم للماء في الصيف ب»المقطان» والساكنين ب»القطين»، عندما تتشكل قرى متكاملة تظهر فجأة عند أحد مصادر المياه تعمر بالحركة والضجيج، ويتفرغ الرجال لمهمة توفير الماء الذي يجلبونه من تلك الابار بواسطة «الدلاء» والحبال التي تلف على أجساد نصف عارية أو تعلق في إحدى الدواب «السواني» يتم سحبها من أعماق قد تتجاوز المائة متر. العد.. والعيلم ويختلف أبناء البادية في تصنيف هذه الأبار أو الموارد، لكن أغلبهم يتفق على أنها (رس)، وهو مصدر ضئيل وشحيح للماء، يليه العد ثم العيلم، فيما يذهب البعض أن العيلم اسم مرادف للعد، وهي مصادر وافرة لا تنضب أو تنقص والتي وصفها الشاعر الهلالي: رحلنا ولا ابقينا بنجد حسوفه سوى عيلمٍ بين اللواء وزرود عبينا لماها جلد تسعين حقه وتسعين مع تسعين جلد قعود ألفين ورد الماء مع ألفين صدرها وألفين مع روس العدام أورود الطريف أنهم وضعوا منها أيضاً مقاييس للرجال فالرجل (الرِّسّ) هو الرجل البخيل سريع الانفعال الذي لا يعتمد عليه، ويوصف الرجل الكريم صاحب المواقف بالعدّ أو الهداج. أحد موارد المياه مكتظ بالناس والمواشي جهاد الملك عبدالعزيز قضى على «الصراعات الدموية» عند موارد الماء المزيونة أولاً المارد أو بئر الماء الذي جمع هؤلاء يبقى عامراً بحركة عطشاء الماء، مثل عطشاء الغرام، وفي آخر النهار عند ما ترتوي المواشي تتوجه نساء وفتيات المضارب يحملن على رؤؤسهن قدور الماء، وهن بكامل زينتهن ليجدن هناك رجال وشباب مفتولي العضلات من الأقارب والجيران، وقد تطوعوا بسحب الماء من الأعماق وهم يستعرضون أمامهن مهاراتهم في سرعة استخراج الماء، مثل استعراضهم ترديد أغاني وحداء تستخدم عند الموارد، ويتسابق هؤلاء على ملأ قربة أو قدر «المزيونة» أولاً ورفعها فوق رأسها، وقد ينزع أحدهم شماغه أو ثوبه ليضعه «حصرة» لتكون عازل وقاية بين رأسها وقدر الماء الذي تحمله، لكن الفتيات اللاتي لا يوددن مفارقة المكان للاستمتاع بالأجواء ومشاهدة الأحبه وسماع الغناء، ويخشين منع الأهل لهن من العودة يلجأن إلى سكب الماء في الرمل قبل وصولهن، ثم يعدن من منتصف الطريق لملأ قدورهن مرة أخرى، وقد يكررن الحيلة عدة مرات حتى أن أحدهن قالت: متى على الله يهبّ الهيف يومي بعشب الزماليقِي إليا نزلنا ليال الصيف يملا النظر شوف عشّيقي راعي الثوب الحمر نعود مرة أخرى لشاعرنا الفذ والنزيه عبدالله بن سبيل ليروي لنا فصلاً آخر أكثر إثارة يأتي لحظة توجه البدو لأسواق المدن والقرى المجاورة؛ لبيع منتجات مواشيهم والتبضع بثمنها لاحتياجات عام كامل قد لا يعودن فيه إلاّ بمثل هذا الوقت من العام المقبل: قلبي ربيعه جية البدو ومناه ولا احسّب البيعات وش صرفت به العصر يوم القصر مالت فياياه في سوقنا الثوب الحمر وقفت به تجر ثوب البز واعظم بلواه لو كان قلبي ممحلٍ ربعت به ياتل قلبي تلة الغرب لرشاه على زعاع حايلٍ صدرت به سواقها عبد ضربها بمحداه اما امرست برشاه والاوطت به كنك على سوقه تهمه وتنخاه لا عود الله ساعةٍ عرفت به تصنيف مياه الآبار إلى «رِّسّ وعدّ» واستقرار «القطين» منحها الحياة من جديد مقطفة الزماليق ويشاطره الشكوى شاعر آخر هو زيد بن غيام -رحمه الله- عند ما طرح سؤالاً على صديقه الشاعر حمد النجدي، وهو صاحب متجر يرتاده البدو في الصيف والذين رمز لهم الشاعر ب»مقطفة الزماليق» يقصد زهور الاعشاب البرية: يا أحمد أمقطفت الزماليق ما جوك هو أنت ما عينت ما شفت ما جاك ما شفت من قرنه به المسك مدهوك غرو(ن) أليا منك تمعنته أغواك لا سلهمت لك ثم تبدتك بضحوك قرب حفافيرك ووص بضحاياك سقاية المواشي من إحدى الموارد صراعات الدم الوجه القبيح في المنظومة هي تلك الصراعات الدموية بين قبائل الجزيرة العربية قبل أن يحكم سيطرتها الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- عندما كانت كل قبيلة (تحتل) موارد مياه معينة تنزلها في الصيف، وتمنع القبائل المعادية الأخرى من ارتيادها أو الاقتراب منها مهما كان السبب، وإن قبلت بتقديم شربة ماء لمنقطع أو عابر سبيل في أضيق الأحوال اعتبر ذلك فضلاً منها، ويبقى ديناً لدى القبيلة الأخرى ما لو مر أحد أفراد القبيلة أو جماعة منهم بنفس الظروف. وتسجل لنا الاحداث عدداً من المعارك بين قبيلة وأخرى على بئر ماء، إما بسبب شح الماء أو لابعاد القبائل الاخرى عن «مفالي» ومراتع القبيلة، ونظراً لشح الماء وقلة الموارد وتباعدها فقد استخدمت أيضاً في التكتيك الحربي بين القبائل، وهي ما قال عنها الكابتن الانجليزي «سايدلر» ضمن رحلاته الاستكشافية للجزيرة عند ما مر بآبار رماح وتزود منها عام 1819م، وقال:»إن وضع اليد على أمثال هذه الآبار مسألة لها من النتائج الهامة في هذه الصحراء ما يعادل فوائد قلعة حصينة مشيدة للحماية في القارة الأوروبية». الملفت للنظر ما ذكره «سايدلر» عن العدد الهائل من أبناء البادية القاطنين آبار رماح والذي قدره بنحو ألفي أسرة، وهو ما يقدر في الحساب المتوسط باعتبار كل أسرة تتكون من خمسة أفراد قرابة العشرين ألف نسمة، وهو ما يعادل سكان محافظة أو مدينة متكاملة تحتاج إلى العديد من الخدمات المختلفة الهائلة. رحالة يستخرجون الماء من أحدى الأبار جانب من رحلة استخراج الماء من أحد الأبار شبان عند المورد يساعدون الفتيات وكبار السن على استخراج الماء وحمله