أكثر الأشياء التي ننادي بها ونناقش حولها تهدف إلى سعادة وحرية الشخص نفسه بعيدا عن أي اعتبار آخر . بمعنى أنه ليس الهدف هو أن يتكلم عنا الناس أو يغيروا وجهة نظرهم أو أنهم يروننا كمتطورين ومتقدمين. كل الحديث عن التقدم أو التطور أو النجاح لا قيمة له إذا كان الشخص نفسه محروماً من حقوقه الأساسية . هناك أمثلة كثيرة توضح وجهة النظر هذه، وتكشف عن الخلط في المفاهيم التي باتت تتكرر في الآونة الأخيرة. من هذه الأمثلة هو تقرير مصور شاهدته مؤخرا على موقع مجلة التايم الأمريكية لفتيات سعوديات مغرمات في لعب كرة القدم، ولكن ليس هناك أي فرصة لهن للمشاركة بشكل طبيعي. إحدى الفتيات تحدثت بنبرة شغوفة عن عشقها الكبير للعب الكرة، ولكنها بدت منكسرة عندما قالت إن هناك من يرفض أن تمارس مثل هذه الهواية . ترْك هذه الفتاة تعبر عن نفسها وتمارس حقها كانسان لديه رغبات وطموح وهوايات هو الأهم هنا، وليس أي شيء آخر. الآن، جميعنا يتذكر مشاركة المرأة السعودية في الأولمبياد الأخيرة التي عدها الكثيرون نجاحاً . ولكن نجاحاً لمن ؟ الأكيد أنه ليس في مجال الرياضة للمرأة التي تعاني من غياب تام للنشاط الرياضي سواء في المدارس أو الجامعات أو الأندية الرياضية . ولكن الكثيرين يعتقدون أنه نوع من النجاح الدعائي لنا الذي يصورنا بأننا شعب متطور، وهذا هو الشيء الخاطئ . ما الفائدة إذا كانت المرأة تشارك في الأولمبياد أو حتى تحقق الميدالية الذهبية، والمرأة في الداخل لا تمارس حقها في ممارسة الرياضة إلا من خلال المشي في شوارع مثل شارع الحوامل في الرياض (أتى ذكره في التقرير الأخباري) . ليس المهم أن نرفع أعلامنا في المحافل الدولية، المهم هو أن نكون صادقين مع أنفسنا في الداخل، ونفهم حق الانسان ليس من أجل تجميل صورتنا بل من أجله هو . مثل هذا النجاح الدعائي الشكلي بات يتكرر كثيراً ويجعلنا ننسى الفكرة الأساسية، وهي حماية حق الانسان والدفاع عن خياراته . مثلا نرى الاحتفالات مع كل منجز تقوم به المرأة السعودية، وتحويل هذه المرأة إلى رمز . هذا في تصوري خطأ لأننا نحتفل بمثل هذا المنتج الدعائي، ولكن المهم في الحقيقة هو النجاح الذي نوفره للمرأة بشكل عام . ماذا يهم طفلة في الجوف أو أبها أو القصيم، إذا ما حققت امرأة سعودية منجزا جديدا أو تحصلت على منصب رفيع . المهم هنا أن نوفر لها حقها الأساسي في التعليم المتطور، الذي تتكسب فيها مهارات علمية وثقافية ولغوية حديثة، ونتركها بعد ذلك لنفسها . نعرف جميعا أن الحال ليست هكذا، وفي الوقت الذي تتقافز فيه الفتيات من النوافذ هرباً من النيران، تخرج لنا امرأة فرحة بنجاحها أو شهرتها وهي تعلن تقدم المرأة السعودية. نعم، تقدمك أنت، وشهرتك أنت، وزيادة مالك أنت، ولكن الفتاة الصغيرة لن تحصل على أي شيء من كل هذه الدعاية . كلنا يقع في هذا الخطأ وانا ارتكبته أكثر من مرة . اعتقدت أن الكشف عن مواهب المرأة السعودية سيعزز من مكانتها . لذا قمتُ مرة بكتابة تقرير صحفي عن طبيبة شهيرة، ولكنني اكتشفت أن هذه الطبيبة لا تهتم إلا بنفسها وشهرتها، وتزيف الحقائق فيما يخص حقوق المرأة في التعليم وفرص العمل. طبعا لا يهم فأبناؤها يدرسون في مدارس متطورة جدا ولكن ماذا عن البقية؟ عندما نتكلم عن حقوق الفتاة الصغيرة في تعليم متطور لا يعني هذا أن نريدها أن تكون مشهورة أو تتحدث عنها الصحف (وكل هذه أشياء فارغة)، بل نريد أن تحظى بالفرصة الكاملة لتحقق ذاتها وتشعر بسعادتها وحريتها . تماما نفس أفكار الفتيات في الفريق الكروي السري. هن لا يردن بطولة ولا شهرة ولا دعاية، بل أن يحظى الانسان بحقه البسيط في ممارسة هوايته المحببة التي تشكل جزءا أساسيا من سعادته . الفكرة الرئيسية هنا أن نوفر للانسان رجلًا أو أمرأة حقه في أن يشعر بحريته، ويمارس هوايته، ويحصل على فرص النجاح مثل غيره. ولا نفعل ذلك لأننا نريد أن نكذب على أنفسنا، ونصف أنفسنا بالتقدم المزيف. لو كانت الأمور بهذه الصورة، فمن الممكن أن نحول نجاح شخص على أنه قفزة حضارية للمجتمع كله. هذا واضح في بعض الدول حيث لا يتوقف المجتمع عند الاحتفال بإنجازات بعض أفراده، بينما الأوضاع سيئة على أرض الواقع . الاحتفال الدعائي خطير لأكثر من سبب . أولًا : لأنه يلغي قيمة الأفراد مقابل الدعاية لشخص ما حيث نجعل اسمه مرادفاً للتقدم، وثانيا: نزيف الواقع لأننا فعلا لا نتغير إلا من خلال التلفزيون ونشرات الأخبار، بينما النظم والقيم التي تؤثر في الجميع لم تتغير، وثالثا: يؤدي إلى خلق شخصيات مخادعة تستغل مثل هذه الاحتفالات الدعائية للترويج لنفسها. ستشتهر نعم، ولكن المجتمع سيتراجع، ورابعا: نحرض الصغار لمحاكاة هذه الشخصيات . آخر ما نريده فعلًا هو أن نقول للأطفال الصغار بأن طريق النجاح يكمن في الكذب والخداع والاستغلال. ولكن إذا ركزنا على الانسان نفسه فإن النتائج ستكون أهم، حتى وإن كان مع دعاية أقل. سيشعر الانسان بالسعادة لأنه شعر باحترام خياراته، وسيقوم هذا الانسان السعيد بالتعامل مع الآخرين بذات القدر من الاحترام والمساعدة. كل ذلك يعني أن الجميع سيسعون لتوفير نظام تعليمي مثلا يخدم الجميع ولأطفالهم في المستقبل، وسيكون هناك حس أخلاقي وإنساني عال بالآخرين. وبهذا الاسلوب نساعد الجميع على النجاح!، ليس من أجلنا أو بهدف تجميل صورتنا، ولكن من أجل الإنسان داخلهم. هكذا تنجح وتتطور المجتمعات تطوراً حقيقياً وليس شكلياً أو دعائياً. التطور والتحضر الشكلي هما مثل قيادة سيارة فارهة في مكان فقير، خربٍ ومحطم . شيء فارغ ومعيب، أما التطور الحقيقي فينطلق أساساً من حرية وسعادة واحترام خيارات كل إنسان، حتى لو أراد أن يقذف الكرة بعيداً في الهواء.