سأبدأ المقال بقصة حصلت لأحد المرضى السعوديين. كان موظفا يعمل في شركة خاصة ويشمل عقده التأمين الطبي. بدأت تظهر على الموظف أعراض تليف الكبد في آخر شهر من عقد التأمين؛ فنوم في مستشفى خاص وتكفلت شركة التأمين بعلاجه خلال الشهر الباقي من العقد ثم رفضوا تجديد عقد التأمين بسبب مرضه الذي سيكلفهم مبالغ كبيرة. اضطرت عائلته عندها اللجوء لأمرين: إما أن يبقوه في المستشفى الخاص ويلزموا بمبالغ كبيرة لا يقدرون عليها، أو أن يحولوه لمستشفى حكومي وهو ما حصل أخيرا. جلست أفكر عندها بما هو الحل لمشكلة الأشخاص الذين ابتلوا بأمراض علاجها باهض التكلفة، هل نلزم شركات التأمين بعلاجهم، وهذا يرهقها ويعرضها لخسارة كبيرة، كما أن هذه الشركات ليست مؤسسات خيرية للإحسان للناس وإنما هي شركات تجارية أسسها مستثمرون هدفهم الربح. أم أن الحل أن نعفي الشركات من علاجهم، وبهذا يتضرر حامل وثيقة التأمين الذي هو في أحوج وقت للاستفادة من التأمين، وفي كثير من الأحيان لا يمكنه تحمل مبلغ العلاج. كان سؤال كيفية تمويل التكلفة الصحية دائما ما يجول بخاطري بعد ذلك الموقف. هل الأفضل أن تدار القطاعات الصحية بطريقة حكومية فيها ما فيها من سلبيات البيروقراطية. أم الأفضل أن تدار بطريقة تجارية فيها ما فيها من الاستغلال. أم أن هناك حلولا تجمع ميزات هذا وذاك، وتناسب الرغبة الحكومية لتقديم العلاج الجيد والمجاني، مع وجود مشاركة للقطاع الخاص تعطي الخدمات الصحية حيوية وتنافسا بين مقدمي الخدمة. لقد طرح كثير من الناس فكرة التأمين الصحي للجميع ( للمواطنين والمقيمين) على أنها الحل لمعظم مشاكل تمويل القطاع الصحي. ويكون دافع تكلفة التأمين للمواطنين هو الحكومة، وللمقيمين يكون دافع التكلفة هو صاحب العمل. وتكملة الفكرة أن تؤجر منشآت وزارة الصحة على مستثمرين يشغلونها تشغيلا تجاريا. عندها سيكون هناك تنافس بين المستشفيات في خدمتها وعلاجها للمرضى، ويكون الشخص مخيرا بين عدة مستشفيات يختار أفضلها لعلاجه. وفي الحقيقة الفكرة التي سأطرحها في بقية المقال توافق ولا تخالف فكرة التأمين الصحي للجميع ولكنها تضيف لها إضافة بطريقة معينة سأفصلها. الفكرة هي: أن ينشأ صندوق كبير تجمع فيه جميع أموال العلاج، ودعنا نسميه "صندوق العلاج". هذا الصندوق شبيه بصندوق معاشات التقاعد. تدفع الحكومة لكل مواطن مبلغا سنويا، ويدفع صاحب العمل لغير السعودي مبلغ الاشتراك السنوي. في هذه الفكرة تتحول وظيفة شركات التأمين الطبي من شركات محصلة للأموال ومتكفلة بالعلاج إلى شركات وساطة بين المستشفيات الخاصة وبين "صندوق العلاج". ودعنا نحول اسم "شركات التأمين الطبي" في هذا المقال إلى "شركات الوساطة الطبية" وهذه التسميات هي لمجرد تسهيل فهم الفكرة. سيتم الدفع ل"شركات الوساطة الطبية" بطريقة مبلغ مقطوع عن كل عملية إدارية، ومبلغ آخر أكبر من المبلغ المعتاد عند كشف أي عملية أجريت بغير حاجة أو عند كشف احتيال. وبهذه الطريقة ستكون ل "شركات الوساطة الطبية" وظيفتان، الأولى: التأكد من احتياج عمل الإجراءات الطبية وعدالة تسعيرها من المستشفيات، وكشف التلاعب. والثانية: تسهيل إيصال الأموال للمستشفيات والتيسير على موظفي الصندوق بتقليل عدد المتعاملين المباشرين معه. الفوائد المتوقعة للفكرة ستتنافس "شركات الوساطة الطبية" في تقديم الخدمة للمرضى المزمنين ( مثل مرضى الفشل الكلوي)، وللمرضى ذوي العلاج الباهض (مثل مرضى السرطان) وذلك لأن مصلحتها ستكون كبيرة لأن الدفع سيكون لكل عملية إدارية، ولهؤلاء المرضى سيكون هناك العديد من العمليات الإدارية. ونتذكر هنا كيف كان يصعب على "شركات التأمين الطبي" التقليدية أن تبقي خدماتها لمرضى الفشل الكلوي أو السرطان فكانت تضطر في كثير من الأحيان لعدم تجديد عقود التأمين لهؤلاء المرضى. في الطريقة التقليدية عند تفليس أو حل إحدى شركات التأمين ستجد الحكومة نفسها أمام آلاف الأشخاص الذين لا يمكن تغطية تكاليف علاجهم. ولكن في فكرة "صندوق العلاج" ستتوزع المخاطر وتذوب بسبب كثرة الأشخاص المشاركين (أشبه ما يكون بإعادة تأمين تلقائية). في هذه الفكرة ستزيد أرباح المستشفيات الخاصة مما يشجعها على إعادة استثمار أرباحها في مبان جديدة ورواتب أفضل وأجهزة أكثر كفاءة مما يرفع جودة القطاع الصحي ويجعل أرباح القطاع تعود له وترفع جودته. لأن العادة أن يعيد المستثمر جزءا من ربحه في نفس القطاع؛ فالمستثمر في الصناعة عادة ما يعيد الاستثمار في الصناعة، والمستثمر في السياحة يعيد الاستثمار في السياحة، الخ. بينما في فكرة التأمين التقليدية فإن معظم الربح سيذهب لشركات التأمين والتي ستعيد استثمار جزء منها في استثمارات مالية (لأن التأمين قطاع مالي) غالبا وليست استثمارات مباشرة في القطاع الصحي. وجود "شركات الوساطة الطبية" سيفيد أطراف المعادلة الثلاثة (المستفيد من العلاج، المستشفيات، صندوق العلاج). سيفيد العملاء بحيث سيجعل خدمة العميل هدفا ويكون التنافس بينها في وجود فروع أكثر، وسيكون هناك رد سريع على الاتصال وما إلى ذلك. وسيفيد المستشفيات الخاصة بتسهيل تحصيل الأموال بدلا من دخولها في معمعة التحصيل والتي هي من غير تخصصها الأساس. ويفيد طرف المعادلة الثالث وهو "صندوق العلاج" بحيث إنه سيقلل عدد المتعاملين معه ويتأكد من سلامة الإجراءات من التلاعب. ومن المقترح أن يكون هناك خط رقابة ثان عند "صندوق العلاج". قد تفيد الفكرة "شركات التأمين الطبي" والتي ستتحول إلى "شركات الوساطة الطبية" ؛ ستفيدها بأمرين، الأول: بتقليل المخاطرة، والثاني والمهم هو: التعامل بشكل أخلاقي أكثر. (مع العلم أن تقليل المخاطرة سيضرها بتقليل الربح، ولكن لا ننسى أن هدف الدولة هو تقديم خدمة صحية جيدة وليس هدفها تقديم خدمة استثمارية جيدة!). بدلا أن تعاني شركات التأمين من مخاطر جهالة تكلفة العلاج الفعلية. أو بدلا من تهربها من علاج بعض المشتركين بعدم تجديد عقودهم أو وضع سقف أعلى للتغطية؛ سيكون ربحها على مقدار عملها فمن يقدم خدمة عملاء جيدة سيأتيه ناس أكثر وبالتالي ستكون هناك عمليات إدارية أكثر وربح أكثر. بينما في طريقة التأمين التقليدية سيكون الأكثر ربحا هو من يختار شريحة من الناس يتوقع قلة الأمراض فيهم. ثم يحمي نفسه بوضع سقف أعلى للتغطية فتقع الشركات في موقف أخلاقي سيىء. ويكون أحوج الناس للعلاج هو من يُركل خارج التغطية مع الأسف. *طبيب أمراض باطنية