في سيرته صلى الله عليه وآله وسلم نور هدى، إذ هي تطبيق الدين الحنيف في الواقع ، وتحويل الشريعة إلى حياة. وفي الصحيح من سنته صلى الله عليه وسلم أنه جاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء . متقلدي السيوف . عامتهم من مضر . بل كلهم من مضر . فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة . فدخل ثم خرج . فأمر بلالا فأذن وأقام . فصلى ثم خطب فقال: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) إلى آخر الآية. (إن الله كان عليكم رقيبا). والآية التي في الحشر: (اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله) تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره (حتى قال) ولو بشق تمرة "قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها. بل قد عجزت. قال: ثم تتابع الناس. حتى رأيت كومين من طعام وثياب. حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل. كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده . من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده. من غير أن ينقص من أوزارهم شيء. ولست أريد بحث فقه الحديث، وما فيه من أحكام وفوائد، ما أكثرها، ولكني أريد أن أقف عند جملة واحدة منه، وهي قوله (فجاء رجل) وكثيرا ما تكررت هذه الجملة في السنة النبوية الشريفة، حتى إن أهل العلم بالحديث اهتموا بذكر أسماء المبهمين ، أي من لم تذكر أسماؤهم في الأحاديث أو في الأسانيد ، وستجد ذلك في أحاديث كثيرة ، كمثل قولهم وجاء رجل ، فقام رجل ، فقال رجل ، وكم تعلمنا من المبهمين من أمرو الدين ، لله درهم . والوقفة هنا أن هذا الرجل الذي أفادنا بهذه الفائدة الرائعة والفضل العظيم في السنة الحسنة ، لم يُذكر في الحديث ، فهو رجل من عامة المسلمين ، سمع المقالة النبوية في الحث على الصدقة فبادر ، ولم يحتقر نفسه وفي القوم من هم أعلى منه منزلة وأرفع شأنا ، ففيهم الشيخان ، وغيرهما ، رضي الله عنهم جميعا . فالمبادرة إلى الخير وفعله لا تحتاج منا إلى انتظار الأكابر ، وإن كان فعل الأكابر من وقود الأفعال والاقتداء . فلا ينبغي للمسلم أن يحقر نفسه في بادرة الخير ، فربما اقتدى به عليه القوم ، كما في الحديث المذكور آنفا ، وهذا الأمر متيسر للمسلمين الذين لا يعرفهم أحد في مجالات شتى ، خاصة مع تطور طرق التواصل الاجتماعية ، وطرق خدمة هذا الدين ، وكثرة الوسائل الممكنة لخدمة الدين والوطن والمجتمع ، ولست أقلل من أهمية عمل الأكابر وعلية القوم ، ولكن أركز على أنه بمقدور المغمور من الناس أن يحمل مشعل مبادرة يقتدي بها الأكابر ، ويكون ممن سن في الإسلام سنة حسنة ، وخاصة أن كثيرًا من شباب الأمة اليوم يفهم في التقنية أكثر من كهولها وشيوخها ، ولعلي لا أبتعد عن المعنى حين أُذكّر بما انتشر في اليوتيوب من برامج تنتقد أوضاعنا الاجتماعية والسياسية أحيانا ، وهو جهد لست أريد تقييمه ولكني أراه مبادرة جميلة من شباب جميل حمل هم الإصلاح والتغيير الإيجابي ، ولو رمى هؤلاء الشباب بالتبعة على الأكابر لما كان هذا الجهد منهم . والممخضة من هذا أنك تستطيع أن تكون حاملا مشعل المبادرة التي يقتدي بك من هم أعلى منك منزلة وأرفع شأنا ، وقد لا يذكر اسمك ، ولا يعرفك الناس ويكون لك من الأثر في الدين والدنيا ما لا يعلمه إلا الذي يعلم السر وأخفى ، ولا تضيع عنده أعمال العاملين ، فتجد في صحيفتك يوم القيامة أعمال المشهورين ، والمؤثرين والأكابر ، وتجد فيه نشاط العالم ، وإصلاح الحاكم ، لأنك من أشعل فتيل المبادرة فانفجرت ينابيع العطاء في القوم ، وتحمسوا لها ، ولولا فعلك لما فعلوا أو لتأخروا في الفعل.