الانسان هو المخلوق الوحيد الذي اخترع الكرسي وعلم أتباعه رمزية الجلوس عليه.. وحتى حين أصبح من سقط المتاع وشائعا بين الرعاع اخترع "العرش" ككرسي خاص بأصحاب الملك والسلطة دون بقية الناس! والكرسي في اللغة يأتي بمعنيين: - الأول: الكرس ويعني تجميع الأشياء في موضع واحد؛ ومن ذلك تسمية الدفتر الذي يضم الأوراق بالكراسة.. وهو معنى لا يهمنا حاليا.. ما لم تكن قد تقدمت البارحة (بكراسة مناقصة) لتوريد كراسي الوزارة!! - والثاني: بمعنى "الأساس" الذي يبني عليه الشيء ولهذا يوصف "أساس البيت" ب"كراسي الجدران"!! والمعنى الثاني هو المقصود بكلمة الكرسي في قوله تعالى "وسع كرسيه السموات والأرض"، حيث قال ابن مسعود ومجاهد انه موضع اتكاء القدمين، وقال ابن عباس: "الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره أحد". وهذا المعنى تمت استعارته للاشارة الى من بيدهم المرجع والسلطة كونهم ركيزة الأمر والقادرين على وضع أقدامهم فوق الجميع، وفيهم قال الشاعر: "وهم كراسي في الأحداث تتوب".. وبتطور المجتمعات تعددت مواقع السلطة والتسلط وأصبحت لدينا مجموعة كبيرة من (الكراسي) مثل كرسي المُلك، وكرسي الرئاسة، وكرسي الوزارة، وكرسي الإمارة، وكرسي الحي، بل وحتى "أستاذ كرسي"! ولاحظ - يا من ترتاح على البساط - أن الجلوس على الكرسي بسكينة ووقار ولأطول فترة ممكنة يوحي بالغلبة والاستحواذ والثقة بالبقاء (وإلا أصبح ككراسي ماكدونالد يتقافز الأطفال فوق ظهور الناس)! وما يبدو لي أننا نحن العرب ندرك بالفطرة أهمية البقاء فوق الكراسي لأطول فترة ممكنة؛ فالمسؤولون لدينا يزداد تمسكهم بالكراسي كلما اقتربوا من سن التقاعد.. ويكرهون الجولات الميدانية خشية تعرض كراسيهم للاختطاف.. وحين يضطر أحدهم لفعلها (بأمر من كرسي أكبر) يغلق مكتبه ولا يسمح لنائبه بالجلوس مكانه.. وإذا عاد ووجد أحدا فوق كرسيه يغضب (ما لم يكن ابنه البكر) ولا يرتاح قبل فصله أو نقله لقسم آخر.. ولأنهم يعرفون أن الكراسي الحديثة "دوارة" وقابلة للهبوط المفاجئ يتوقفون عن الدوران - ويتمسكون جيدا بالمسندين الجانبيين - حين يدخل عليهم من يليهم في الرتبة والوظيفة!! .. وحين تأملت في العلاقة بين حبنا للكراسي وكثرة اشتقاقاته اللغوية خرجت بعلم جديد يدعى "الكرسيلوجيا".. فمن المعروف أن كثرة الاشتقاق في أي لغة دليل على اهتمام أهلها بالمسمى ذاته.. ونحن العرب نملك أكثر من 48 اشتقاقا من كلمة "كرسي" تتراوح بين أفعال ومسميات تؤكد حبنا وتمسكنا به. - خذ على سبيل المثال فعل كّرس (على وزن فعّل) وتعني تقديم ما يلزم للتسلق على أقرب كرسي. - وتكريس (على وزن تفعيل) وتعني محاولة توريث الكرسي لأحد أفراد العائلة. - ومُكرس (على وزن مُفعل) بمعنى مُخصص ومُحتكر بقرار من كرسي أكبر. - ومُكترس (على وزن مُفْتَعل) أي مُنح كرسيا مُفْتعلا وغير ذي قيمة اتقاء لشره. - ومتكرس (على وزن متفعل) أي يرفض النزول عن الكرسي رغم ضخامة الإغراءات والوسائل. - ومنكرس (على وزن منفعل) وهي حالة الصدمة التي تصيبه حين يُسحب منه الكرسي بعد استنفاد كافة الإغراءات والوسائل. - وتكركس (على وزن تفعلل) أي سقط لوحده من الكرسي إما لكبر سنه أو فساده أو زلة لسان بلغت سيده. - ومكركس (على وزن مُفَعْلَل) أي أعيد للكرسي بعد العفو عنه أو مشاركته في قضية الفساد التي تورط بها. - ومكراس (على وزن مفعال) وهو مسؤول فقد الأمل في احتكار الكرسي ولكنه اكتسب خبرة في جلبه للغير بوعد المنفعة!! .. وحين تتأمل كل هذه الاشتقاقات تكتشف أنها نتيجة متوقعة لخاصية "الدوران" و"الهبوط المفاجئ" في الكراسي الحديثة.. وهذه الخاصية بالذات تُكرس مقولة قديمة مفادها: "لو دامت لغيرك، ما انكرست إليك"!!