تلحّ أحياناً مفردة عابرة او مسكونة بحمولة ثقيلة من التداعيات، ربما تداعيات المشهد او تداعيات التوظيف، او تداعيات المتماثلات أو تداعيات الانجاز وهو النادر والقليل. وأحيانا تصر المفردة على استدعاء مفردة اخرى لتشكل معها ثنائيا لا يمكن مقاومته، ويظل ينسج خيوطه باسترخاء ماكر .. ولذا تجد البعض احيانا يردد كلمات لا صلة مباشرة بينها وبين واقع اللحظة، فقط ربما لأنها قابعة في عمق تداعيات تسكنه وحده. «الكراسي» مفردة وافرة الحظ بما تستدعيه في المخيلة العامة وفي مخيلات اخرى أكثر حضورا وأهمية ذلك الحجم والحضور. أما لعبة الكراسي فهي تشكل في الوعي الجمْعي عنوانا أثيرا تستدعيه تلك المقاربة بين لعبة ولعبة، واستدعاء وآخر، وترقب لحظة الاقتناص بين عقلين، عقل طفولي راغب في الاستيلاء على الكرسي اللعبة، وعقل يرهن طموحه وآماله للوصول إلى كرسي ايضا. لم أعرف لعبة الكراسي صغيرا، فنحن من جيل آخر وبيئة اخرى، لم يكن فيها كراسي كثيرة. نحن من جيل تحول بين مشهديْن، وعاش كفاف لحظة البداية التي كانت بدايات في كل شيء، ثم انفتحت له آفاق الدنيا فعرف الكراسي بكل انواعها. وشهد الصراع على مقاعدها والتيمن بها والفزع منها والبكاء على ذكرياتها. عرفتُ فيما بعد ان ثمة لعبة تعتمد على فكرة الركض واللهاث والتهافت على مجموعة كراسي هي اقل من عدد الراكضين بالضرورة. ولذلك من الطبيعي أن يحشد المتربصون بأترابهم كل قواهم من شد وجذب وسرعة حركة ودقة استجابة للاستيلاء على كرسي قبل ان تدق الساعة ثانية التوقف. حالة الإقصاء لا تخلو منها لعبة الكراسي، العاجزون عن الاستحواذ على كرسي لن تسامحهم نظرات التجاهل والاستضعاف من أقرانهم المولعين والبارعين في الاستحواذ. هناك كراسي مريحة جداً لدرجة الاسترخاء اللذيذ، وهي خطيرة بخطورة وثارتها لأنها ربما دفعت صاحبها للنوم العميق حتى يسقط من كرسيه. وهناك كراسي غير مريحة صُممت هكذا حتى لا يستمر الجلوس عليها طويلا لكنها نادرة وقليلة، وهناك كراسي سريعة الدوران لا تستقر بسهولة، وهي من أصعب انواع الكراسي وتتطلب باعا طويلا في الخبرة والمهارة والقدرة على الاستحواذ الطويل البارعون في توظيف الرمزية لم تنجُ منهم لعبة الكراسي، باعتبارها تنطلق من تشكيل ذهني جمعي يقدر ويجلّ ثقافة الاستحواذ والوصول للمنصب/الكرسي، وهو إذ يضفي تلك المساحة من التقدير المفتعل للقابعين على الكراسي، فهو ايضا يتجاهلهم خارج اللعبة، ليلتهمهم عالم التهميش والنسيان. وللكراسي كرامات، كما للباحثين عنها والمستبسلين في سبيل الوصول اليها ملامح وعلامات. ربما يظن البعض أن بضع شهادات، وحظاً طيباً كافية للوصول إلى كرسي مناسب، إلا أن الواقع يؤكد ان ثمة مواهب من نوع آخر هي الشرط الضروري الذي لا تتحقق الفرصة بدونه. البعض ممن تفتنهم الكراسي، وهم خارج لعبتها، لا يتورعون عن إشعال حالة نقدية لإشغال صاحب الكرسي، وتنغيص يومياته، إلا أن هذا الجهد النقدي يذوب ويطوي صفحته بمجرد أن يصبح أحد اولئك قريبا من صاحب الكرسي؛ حيث يبدأ كفاح من نوع آخر من اجل تحييد أي طامح بالكرسي. إنها لعبة لا ترحم الضعفاء والمتراخين او الساهين عن لحظة الحقيقة وتوقف الايقاع. يتحول الناقدون والباحثون عن هفوات وأخطاء وتراخي صاحب الكرسي بمجرد وصولهم إليه، فتشعر انهم يوظفون طاقتهم من اجل الابقاء على الكرسي وصاحب الكرسي حتى لو تطلب الامر استدعاء لعبة اخرى أصغر للكراسي ينظمونها من اجل توفير قدر أكبر من سياج الكراسي الصغيرة لتحمي الكراسي الكبيرة. وكما أن هناك لعبة كراسي فهناك انواع للكراسي، هناك كراسي مريحة جدا لدرجة الاسترخاء اللذيذ، وهي خطيرة بخطورة وثارتها لأنها ربما دفعت صاحبها للنوم العميق حتى يسقط من كرسيه. وهناك كراسي غير مريحة صُممت هكذا حتى لا يستمر الجلوس عليها طويل،ا لكنها نادرة وقليلة، وهناك كراسي سريعة الدوران لا تستقر بسهولة، وهي من أصعب انواع الكراسي وتتطلب باعا طويلا في الخبرة والمهارة، والقدرة على الاستحواذ الطويل. تذكرت حينها كراسي الانتظار في صالات السفر بمطار الملك خالد الدولي حين تم استبدال تلك الكراسي الوثيرة التي تغري بالاسترخاء وربما الاغفاءة بكراسي اخرى تجعل من جميع الجالسين في حالة ترقب بانتظار رحلة المغادرة!!. الكراسي الوثيرة والناعمة والثابتة تغري كثيرا بالنعاس الطويل وربما النوم العميق، حتى ينسى المسافر انه على وشك المغادرة في ساعة الحقيقة التي لا ريب فيها. وتستدعي لعبة الكراسي سوق الاسهم التي حيرت الخبراء والباحثين. فهي لعبة كراسي باهظة الكلفة. تتبادل الاسهم الصعود والهبوط، تصعيد كراسي بعض الاسهم والهبوط بها ... لعبة دفع ثمنها صغار اللاعبين وضعفاء البنية والملاءة المالية والخبرة والبعيدون عن تعقيدات الشراكة في تحالفات التصعيد والتهبيط... أمام مفتولي العضلات ذوي الايدي الطويلة والقلوب الغليظة. وحدهم البارعون في لعبة الكراسي وإلصاق الصغار في الزاوية قادرون على مواصلة اللعبة. ولأنهم غير قادرين على مواصلة اللعبة وحدهم، فهاهم يعودون مرة اخرى يبتسمون للصغار ويغرونهم ببعض مكاسب الكراسي المؤقتة... حتى التهام طعم آخر. هناك ظاهرة كراسي من نوع أخر غزت الجامعات ومراكز البحوث .. نعيش طفرة في كراسي البحث العلمي، وهي ظاهرة مُبشرة لو تحركت في سياق توظيف البحث العلمي لخدمة التنمية ضمن معادلة الشراكة بين المؤسسة الأكاديمية، وشخصية أو جهة ما؛ بحيث تقدم هذه الشخصية أو الجهة التمويل، في حين تتولى المؤسسة الأكاديمية تهيئة البيئة البحثية اللازمة لنجاح الكرسي، والإشراف على تنفيذ مهامه. هذه الكراسي بدت في الآونة الاخيرة ظاهرة استحوذت على اهتمام الجامعات السعودية والتنافس بين الباحثين والاكاديميين، حتى اصبحنا كل يوم نطالع خبر كرسي هنا او هناك. قد يتطلب الامر وقتا كافيا لاكتشاف أثر ونتائج هذه الكراسي، إلا أن بعض الاكاديميين يبدي تحفظا وملاحظات جديرة بالاهتمام. في مقال نُشر في وقت سابق للدكتور محمد مهنا أبا الخيل، قال كلاماً أصبح يتردد بين بعض المهتمين والباحثين. يقول وهنا مربط الكراسي « إن واقع إدارة عدد من كراسي البحث العلمي في بعض الجامعات لا يرقى لمستوى الضبط المالي المرجو، ناهيك عن الضبط المنهجي لعملية البحث، ففي إحدى الجامعات السعودية كمثال هناك مسؤول أو مسؤولة عن البحث العلمي يقتنص مخصصا شخصيا من أحد كراسي البحث مبلغا من ست خانات سنوياً دون أن يكون له أي دور في البحث أو المساهمة فيه، وهناك العديد من أمثلة استغلال كراسي البحث في تخصيص مبالغ كبيرة للمشرفين والمساهمين في تلك الكراسي، حتى إن أحد أساتذة الكراسي الذي يشرف على أكثر من كرسي بحث يحصل على مخصصات من تلك الكراسي تفوق مخصصات مدير جامعته.. إن هذا الإسفاف في استغلال كراسي البحث لا شك سيقتلها، فالواضح أنها باتت مصدر إثراء لقانصي الثروة من بعض الأكاديميين، حتى بات كثير من الأكاديميين يلهث خلف ذوي الثروات لإقناعهم بتخصيص كراسي بحث خاصة على أن ينص بالمنح إشراف ذلك الأكاديمي...» إذا تأكد مثل هذا فنحن ايضا أمام لعبة كراسي من نوع آخر. وما أكثر ما تستدعيه هذه اللعبة.