كم هو بشعٌ هذا العالم الذي حمل شرعة حقوق الانسان فإذا هو اليوم يلوذ بالصمت المريب.. وكأنه ينتظر الإجهاز على آخر رمق في ضحية تقاوم حتى آخر قطرة دم. كم هو بشع هذا العالم وهو لا يرى سوى الجزء الأخطر والدموي فينا لأن قدرنا أننا نعيش في منطقة منكوبة منذ أكثر من نصف قرن فتشوا في هذا العالم.. هل هناك أخبارٌ اليوم أكثر سوءاً مما يزخر به فضاء العرب.. هل هناك مجازر جماعية وإعدامات جماعية ومقابر جماعية.. هل هناك مسخ ينتمي للبشر مهمته الوحيدة جز أعناق الصغار بالسكاكين، وقطف الرؤوس بالسواطير.. هل هناك تفجيرات مفخخة تودي بعشرات الضحايا كل يوم سوى في عالمنا الحزين؟! هل هناك جيش يتحرك بدباباته وطائراته وشبيحته.. ليفتك بالمدن وساكنيها.. هل بقي في هذا العالم بشاعة تصل إلى حد التدمير والتهجير ومراكمة عشرات الآلاف من الجثث.. هل بقي من يقوى على متابعة هذا النزيف اليومي.. هل بقي من يقوى على مشاهدة وجبات المساء من أخبار البؤس والالم التي تخترق كل خلية فينا لتعمل فيها اضطرابا وكآبة وحزنا وألما وعجزا؟ فتشوا اليوم في هذا العالم من أقصاه الى أقصاه... هل ترون قتلا وبشاعة وأكفانا وضحايا كل يوم بالمئات.. هل ترون سيارات مفخخة تُسقط العشرات من القتلى في حروب عبثية لا وظيفة لها سوى حصد الارواح وتكريس التوقف في مربع العطالة والخوف المقيم؟ فتشوا في امريكا اللاتينية هل ترون بقية لصراعاتها الدامية.. ألم تتحول إلى خيارات سياسية وقضايا تنموية وتوجه تنافسي لإقامة مجتمعات أقل حرمانا وفقرا وبؤسا.. كيف اختفت كل تلك الاخبار السيئة عن تلك القارة لتبقى أخبارنا وحدنا في هذا العالم شاهدة على موجة طويلة من الالم والعذابات؟ فتشوا في عالم آسيا هل ترون خيال بول بوت أو الخمير الحمر يراكمون الجماجم، أو يحرقون قرى بأكملها ويهجرون مواطنيهم للأصقاع البعيدة حيث العراء والجوع والحرمان.. فتشوا في عالم أفريقيا الأشد فقرا وجهلا. أليست اليوم أفضل من عالمنا المسكون بفواجع نظم لا يُعرف لها شبيه او مثيل.. هل انتهت حروب العالم لتبقى حروبنا ومشاهد قتلانا واكفاننا تتسع كل مساء لمئات الضحايا. لماذا أصبحنا بامتياز مادة وأخبار العالم السيئة؟! افتحوا خرائط هذا العالم لتروا بقع التوتر والقتل والتدهور والفواجع اليومية.. من أفغانستان إلى الباكستان، ومن العراق الى سورية ومن لبنان إلى اليمن، ومن السودان إلى الصومال.. وإذا كانت تلك بلداناً تعاني فواجع القتل اليومي.. فهناك بلدان عربية على شفا جرف من التدهور والفشل والانسحاق إذا لم تهبط عليها رحمة من السماء وحكمة من أهل الارض قبل البوار.. تكاد الاخبار السيئة والاكثر سوءاً تهبط من هذه المنطقة المنكوبة من العالم.. هل تريدون عينة منها ام أصبتم بالتخمة من نكدها اليومي الذي أورث البعض منا كآبة وتدهورا لا يخفيان على صحته ومزاجه اليومي. أكاد أجزم بأن الكثيرين يستطيعون ان يتوقعوا كل مساء تلك النوعية من الاخبار التي تصفع وجوههم. أخشى ان يصيبنا بالتبلد بعد ان اصبحت تلك النوعية من الاخبار وجبة يومية مسائية تقتل فينا حتى قدرتنا على الأسى والتألم.. مشاهد الدمار والقتل والقصف بالطائرات والدبابات في سورية.. ومدن الخراب التي تذكر بمدن ألمانيا المدمرة عشية نهاية الحرب العالمية الثانية.. عمليات مفخخة جديدة في العراق تأخذ معها العشرات من العابرين في عبث دموي لا يعرف التوقف.. وجبات قتل بالعشرات في يمن الفقر المدقع والتدهور الذريع.. عمليات اخرى في أفغانستان التي ترزح تحت وطأة حروب لم تتوقف منذ ثلاثة عقود.. اليوم، تم العثور على 17 جثة مقطوعة الرؤوس.. الحكومة تقول إن حركة طالبان قتلت 17 قرويا، بينهم امرأتان، وقطعت رؤوسهم، في بلدة كاجاكي في ولاية هلمند. أما في لبنان فالحرب بالوكالة تحصد العديد من ضحايا الاحتراب بين ابناء المدينة الواحدة بل الحي الواحد.. لاشيء هنا غير حي التبانة وجبل محسن. جبهة جديدة يلوّح بها شبيحة النظام السوري لمواجهة لا تكلف سوى العديد من القتلى بين الحين والآخر.. ما أرخص هذه الدماء وما أرخص الانسان في عالم لم تعد الاكفان فيه تضيق بما تحمل من جثامين. بل ما اتعس هذا الانسان الذي يستجيب لهذا الوعي القاتل ليشارك في حفلة الموت قاتلا أو مقتولا. في صدر صحيفة واحدة أقرأ خبرين يحملان مفارقة مذهلة. الأول يحمل صورة مؤلمة لمجازر سورية التي لا تكاد تفارق أعيننا منذ عام ونصف.. وخبر آخر ينعى رائد الفضاء نيل أرمسترونج الذي وطئت قدماه سطح المريخ في 20 يوليو من عام 1969. الأول عنوانه نكبتنا الطويلة بهذه النظم الفاجعة.. والآخر ينعى أحد أولئك الذين أسهموا في قفزة بشرية علمية مذهلة.. المفارقة بين عالمين.. عالم لا يتطلع لأكثر من حريته المسلوبة.. التي تواجه منذ عام ونصف بأبشع ادوات الاجهاض والقتل والاستعادة لحظائر الاستبداد والطغيان.. وعالم يتذكر بإكبار تلك الخطوة الصغيرة التي حققت قفزة مذهلة للبشرية!! المفارقة ليست في مشاركة العالم حصاد العلم وإنجازاته.. بل في المسافات الضوئية بين حق الحياة التي لا تريد هذه الشعوب سواه.. وبين عالم أصبح المريخ بين يديه. كنا في كل عام نستذكر نكبة العرب التاريخية ونكستهم وعدوهم الجاثم على أرض فلسطين.. فإذا بنا هذه الايام نخلي الساحة لنكبة سورية بنظامها البشع وبأحلافه الساقطة في اختبار الانسان وبقوى العالم الغربي التي باعت لثوار سورية الوهم، وأرخت العنان لنظام يتفوق بالبشاعة على البشاعة ليرسم أعظم نكبة أصيبت بها بلاد الشام. حصيلة عام ونصف أكثر من عشرين الف قتيل طوتهم الاكفان.. بينهم آلاف من الاطفال والنساء.. مدن مدمرة تتطلب عقودا وعقودا لاستنهاض وجه المدن.. عشرات الآلاف من المفقودين والمعتقلين.. ما يزيد على مليوني مهاجر في الداخل والخارج لم يبق له سوى الانتظار في ظروف تقصم ظهر الجبارين فما بالك بمن خلّف وراءه كل شيء.. تائه يجري هنا وهناك لتأمين رغيف لأبنائه وكفنه في جيبه. وحتى البلدان العربية التي تخلصت من عبء الاستبداد، فلا زالت تقع في لحظة تاريخية متخمة بالإحباط والامراض الاجتماعية والاحتباس الخطير الكامن في مفاصل مجتمع لا يعرف حدود عالمه الجديد.. حيث تتبخر الآمال والاحلام على واقع يتطلب الكثير من العمل، لا الكثير من الانشغال في معارك لا نتيجة لها سوى هزيمة الذات هزيمة منكرة. كم هو بشع هذا العالم الذي تفزع فيه جمعيات الرفق بالحيوان وجمعيات الخضر لمحاصرة كل ظاهرة تودي بالحياة.. بينما كل ليلة لا ننتظر سوى مشاهد عشرات القتلى والجرحى والدمار والاكفان التي لازالت تتسع للمزيد.. كم هو بشع هذا العالم الذي حمل شرعة حقوق الانسان فإذا هو اليوم يلوذ بالصمت المريب.. وكأنه ينتظر الاجهاز على آخر رمق في ضحية تقاوم حتى آخر قطرة دم. كم هو بشع هذا العالم وهو لا يرى سوى الجزء الأخطر والدموي فينا لأن قدرنا أننا نعيش في منطقة منكوبة منذ أكثر من نصف قرن. وككل ليلة سنكون عناوين ومادة النشرة المسائية.. لقد أصبحنا مادة العالم المأسوية.. لا شيء سوى الدمار والاكفان.. لا شيء سوى الخلافات المعطلة والظاهرة العربية الصوتية التي لا تفارق المشهد الفضائي.. لا شيء سوى الارتباك والشكوى.. لا شيء سوى اقتصاد متعثر وبطالة خانقة ومياه ملوثة وأحياء عشوائية، وتحذيرات من خطورة الفجوة الغذائية بين عالمين.. لم تعد المسألة فجوة تنموية أو علمية.. لقد أصبحت كيف تؤمن رغيف العام في وقت ينذر فيه المصدرون للقمح أن الجفاف سيؤثر في المحصول القادم.. حتى رغيفنا المغموس بالشقاء أصبح عرضة للانحسار!!