ربما يكون القصص هو الموروث الجمعي الذي تنحدر منه ثقافات المجتمع القروي القديم في تهامة بمنطقة الباحة مع أنه يعد الأقل انتشاراً من الخرافات والأساطير التي كانت تصور الجن والعفاريت وغير ذلك من الكائنات العجيبة، ولا تدور حول شخصيات خيالية وأحداث وهمية إنما كانت نتاجاً للخيال ابتدعه مؤلفون غير معروفين، وتناقلته الأفواه وانتقل من مجتمع إلى مجتمع برغم اختلاف اللغات واللهجات وتفاوت الأزمنة. ففي جولة ل «خزامى» على قرية ذي عين التراثية الجميلة بالباحة، وقد كنا نفترش إحدى الصخور الضخمة في إطلالة جماعية جميلة على العين الأعجوبة التي جذبتنا إليها قصة العصا السحرية، التي قيل إنها نشأت عنها تسمية ذي عين الأثرية، فقد كنا شغوفين بالفنون الشعبية القديمة والآثار، وسعدنا بتلقي تلك الأسطورة الرائعة، التي كان يلقيها على مسامعنا نحن أعضاء الرحلة مرشدنا السياحي، وكنا منصتين له بكل شوق لنبحر معا في ذلك الخيال الواسع، وهو يتلو على مسامعنا أبعاد القصة المتوارثة، وكيف أتى إلى السراة رحّالة مسن أطلق عليه اسم (الغريب) وقد رسم الزمان على رقعة وجهه الصغير الذي يتوارى خلف لحيته الحمراء ذات الجذور الناصعة البياض، أبعادا أخرى لمغامرة ذي عين، فتلك الأخاديد التي ينطوي عليها أديم وجهه المتجعد تحت عينيه الغائرتين تكفي لأن تكون رمزا لتلك الأسطورة النادرة، فهو يبدو لمن يراه شيخاً هرماً أجبره الفقر والعوز وتقادم السنين على التنقل والرحيل من بلد إلى بلد فهو يحمل بيده عصا غليظة من الخشب يتوكأ عليها، إلاّ أن له فيها مآرب أخرى!! وقد كان الراوي يجيد التعبير والتصوير البلاغي حتى جعلنا في شوقٍ للغوص في أعماق ذالك الرجل الهرم صاحب العصا السحرية، فهو يتعمد التوقف عن الحديث ليعرف مدى الإذعان ويقيس جودة إلقائه القصة ومدى تأثيرها فينا، فيعرض علينا احتساء القهوة، فنرد عليه كلنا دفعة واحدة أكمل القصة أكمل لا نريد القهوة، وماذا بعد؟! فيبتسم ويستأنف القصة المتوارثة عن ذي عين ويقول: إن ذلك الرجل المسن وصل إلى قمة المرتفع المطلع على القرية التي كانت تسمى جرداء لتجردها من الأشجار والنباتات لعدم توفر الماء، فأرسل نظره ذلك الرجل المسن من أعلى قمم السراة إلى تهامة فبهره المنظر وسقطت العصا في ثقب صغير واختفت!! وهنا استخدم قدراته الخارقة وأدرك أن العصا ثقيلة لما تحويه من أسرار وعجائب، قد غاصت في بحر من الماء العذب تحتجزها عن الخروج صخور صلبة زرقاء أسفل هذا الجبل الشاهق، فاضطر إلى النزول عبر العقبة إلى تهامة وعند وصوله طلب لقاء شيخ القرية، وبعد أن قابله طلب منه أن يجمع العارفين وكبار السن وأهل الرأي من الأهالي، فأبلغهم أن لديهم نهر سيتدفق ويجعل هذه القرية الجرداء ترتدي حلة خضراء وتتباهى بألوان الورود والكادي والبن ولا تنضب مياهها مدى الدهر بمشيئة الله! ففرح القوم وسرهم كثيراً قوله وطلبوا منه فعل ذلك، فقال لهم: سأفعل وترون ما وعدتكم به حقاً، ولكني أشترط عليكم شرطاً وحيداً، وأريد منكم عهداً على أن تنفذوه، فوافقوا على أي شرط يريده لحاجتهم الملحة إلى الماء فقال لهم الرجل الغريب: أشترط عليكم أن يكون لكم الماء، أما العصا الخشبية التي أتوكأ عليها التي ستظهر مع تدفق الماء فهي لي وحدي!! فنظر كل منهم للآخر وضحكوا جميعاً سخرية وتهكماً من هذا الشرط العجيب، وقالوا بصوت واحد: لك ما تريد، ثم أمرهم بحفر الصخر الذي تظهر منه الرطوبة ويبدو بارداً بعض الشيء رغم الأجواء الحارقة في تلك الجرداء التهامية، فبدأ القوم في الحفر واستمر عتاولة الرجال في نقب ذلك الصخر الصلد الجامد، فيما كان الشيخ الهرم على مقربة منهم لا يرمش له جفن، يترقب بزوغ عصاه السحرية مع تدفق الماء، وفي هذه الأثناء انبثق الصخر عن الماء المتلهف للخروج بقوة هائلة فخرجت معه العصا واصطكت بوجه صاحبها المسن وفقأت إحدى عينيه، إلا أنه تمكن من الإمساك بالعصا، فيما كانت الدماء تسيل على وجهه، ثم أنه قاوم تدفق المياه ونجا من الغرق، فودع القوم وهو ممسك بيده على عينه المصابة والعصا بيده الأخرى ومضى متوجها إلى وجهته، بعد أن حول هذه القرية من جرداء إلى واحة خضراء ومزارع غناء، وقيل إنها سميت ذي عين نسبة لذلك الرجل الذي تضررت عينه، وأن أحد الأهالي كان يراقبه خفية ليعرف سر العصا السحرية، فشاهده يفك قطعة من الجلد أسفل تلك العصا المجوفة ويتفحص قطعاً من الألماس والذهب كانت مكنوزة بداخلها!! فانقض عليه هو ورفاقه وقتلوه وسلبوا منه العصا وهنا توقف الماء عند آخر قطرة من الدماء، وكان جزاءه كمن أحسن إلى تمساح أو كجزاء سنمار. وقيل إنه افتدى نفسه بدفع العصا بما تحمله لأهالي القرية مقابل سلامته وحريته، إلا أنها أسطورة من نسج الخيال جاءت لتفسر هذه الظاهرة العجيبة المتمثلة في عدم نضوب العين التي تعاقبت عليها القرون ومياهها الجارية تتدفق من الصخر وتروي مزارعها الغناء.