كان للشاعر العراقي (ابن زريق البغدادي) زوجة جميلة وديعة، يحبها وتحبه غاية الحب، فضاق عليه باب الرزق في بغداد وقيل له ان في الأندلس مجالاً للغنى، فقرر الرحيل إلى هناك وزوجته المحبة ترجوه - وهي تبكي - ألا يفعل، وألا يذهب لتلك الغربة البعيدة، ولكنه حباً في إسعادها بالمال ورحمة لها من الاملاق صمم على التغرب البعيد رغم كل توسلاتها. غادر شاعرنا العباسي بغداد إلى الأندلس على مراحل طويلة في سفر شاق بعيد، وهناك هاجت أشواقه لزوجته، وضاق صدره من غربته، وتذكر توسلاتها له، ولومها إياه على تركها وحيدة، وعلى المخاطرة بنفسه، ثم وداعها له باكية حين أصر.. فقال قصيدة فريدة في الأدب العربي كله: استودع الله في بغداد لي قمراً بالكرخ، من فلك الأزرار مطلعه ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياة وأني لا أودعه وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى وأدمعي مستهلات وأدمعه لا أكذب الله، ثوب الصبر منخرق عني بفرقته لكن أرقعه إني أوسّع عذري في جنايته بالبين عنه وجرمي لا يوسّعه ومن غدا لابساً ثوب النعيم بلا شكر عليه، فإن الله ينزعه اعتضت من وجه خلي بعد فرقته كأساً أُجرَّعُ منها ما أُجَرَّعه» وحين يتذكر لوم زوجته وعذلها له تصعب عليه نفسه فيقول: لا تغذليه فإن العذل يولعه قد قلتِ حقاً ولكن ليس يسمعه يكفيه من لوعة التشتيت ان له من النوى كلَّ يوم ما يُروعِّه ما آب من سفر الا وأزعجه رأيٌ إلى سفر بالعزم يزمعه كأنما هو في حل ومرتحل موكّل بفضاء الله يذرعه وما مجاهدةُ الإنسان توصله رزقاً، ولا دَعَة الإنسان تقطعه قد وزّع الله بين الخلق رزقهمو لم يخلق الله من خلق يضيعه لكنهم كلفوا حرصاً، فلست ترى مسترزقاً وسوى الغايات تقنعه والحرص في الارزاق - والارزاق قد قُسمت - بغي ألا إن بغي المرء يصرعه والدهر يعطي الفتى - من حيث يمنعه - إرثا، ويمنعه من حيث يُطمعه ثم يصف حاله في الأندلس وقد زاد حبه وحنينه لزوجته وأطبقت عليه الغربة بأنيابها: كم قائل لي ذقتَ البين قلت له الذنب والله ذنبي لست أدفعه الا أقمتُ فكان الرشد أجمعه لو أنني يوم بان الرشد أتبعه إني لأقطع أيامي وأُنفدها بحسرة منه في قلبي تقطِّعه بمن إذا هجع النُوام بتُّ له - بلوعة منه - ليلي لست أهجعه لا يطمئن لجنبي مضجع وكذا لا يطمئن له مذ بنتُ مضجعُه ما كنت أحسب ان الدهر يفجعني به ولا انّ بي الأيام تفجعُه حتى جرى البين فيما بيننا بيدٍ عسراءَ تمنعني حظي وتمنعه بالله يا منزل العيش الذي درستْ آثاره وعفت مذ بنتَ أربعه هل الزمان معيد فيك لذتنا أم الليالي التي أمضته ترجعه؟ في ذمة الله من أصبحتَ منزله وجاد غيث على مغناك يمرعه من عنده لي عهد لا يضيِّعه كما له عهد صدق لا أُضيعه ومن يصدِّع قلبي ذكره، وإذا جرى على قلبي ذكري يصدعه عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا جسمي ستجمعني يوماً وتجمعه وللأسف لم يجتمع مع محبوبته بعدها أبداً، فقد مات في غربته ووجدت هذه القصيدة بخط يده، فأوصلت لزوجته خلاصة حب ووفاء ولوعه وعذاب.